تركيا تذهب بعيدا في توسيع واقع الصراع العسكري في المنطقة، وتضع تدخلها في شمال العراق مقدمة لهذا التوسع، ولاحتمالاته المفتوحة، ولأغراض لم تزل غامضة، ومثيرة للجدل، لاسيما مع الإصرار( الأولي) للرئيس أردوغان على بقاء قواته القتالية في معسكر بعشيقة، ومحاولته تسويغ هذا التدخل تحت مبررات ليست واضحة، والتي من الصعب تصور براءتها في ظل تفاقم الصراع الإقليمي، وبعد التدخل الروسي الكبير في أحداث سوريا، ومتغيرات الميدان التي فرضت معطيات جديدة من الصعب إهمالها والتغافل عنها.
الطبيعة السياسية لهذا التدخل تتجاوز التوصيف الذي قدّمته الحكومة التركية، والذي يتمثل بتدريب قوات البيشمركة، والجماعات المحدودة لما يسمى بـ(الحشد الوطني) وهم جماعة مرتبطة بمحافظ الموصل السابق أثيل النجيفي وتحت إشرافه، رغم أن الوقائع تُشير الى أسباب أخرى قد تمهد لتدخل اقليمي في العراق، أو لفرض واقع أمني في الشمال له حسابات أمنية واقتصادية.
وبقطع النظر عن مرجعيات العلاقات العراقية التركية منذ معاهدة سيفر عام 1920 ومعاهدة لوزان 1923والاتفاق التركي العراقي البريطاني عام 1926 وكل الترتيبات الأمنية التي انتظمت بموجبها، فإن واقع الحال يكشف عن هواجس تركية ظلت قائمة، جسدتها سياسات الرئيس التركي الأسبق توركت أوزال، والتي عملت على الغاء بند (عائدات نفط الموصل) في الاتفاقات الواردة آنفا، كتعبير عن حسن النوايا.. وهذا ما يجعل سياسات أردوغان الجديدة مثار جدل واسع، لأنها لا تتكئ على وقائع، ولا على تاريخ واضح من الأزمات والصراعات، لا سيما وأن العلاقات الاقتصادية والسياسية كانت تعيش نوعا من الاسترخاء الواضح، والذي تجسّد عبر مدّ الأنبوب النفطي من حقول كركوك الى ميناء جيهان التركي، رغم سياسات تركيا المائية ضد العراق.
سياسات أردوغان تعكس في واقع الأمر أزمة داخلية في تركيا، وفي حسابات بناء الخنادق الإقليمية، وضعف فرصة تركيا للدخول الى الاتحاد الأوروبي، وأن بحثه عن زعامة إقليمية ينطلق من إمكانية الحصول على تموضع اقليمي قد يُحرج الحسابات الأوروبية في الشرق الأوسط، أو أن تركيا الاردوغانية/ الإخوانية تعمد الى تشكيل محور اقليمي يضم بعض دول الخليج مقابل المحور الذي تمثله إيران في المنطقة.
تراجع أردوغان عن قراره بإبقاء القوة القتالية في معسكر بعشيقة في الموصل يعكس أيضا معطيات سياسية داخلية وخارجية، فتركيا تجد صعوبة في مواجهة أزمات أخرى، ومواقف دولية قد تتطور عبر مجلس الأمن أو الجامعة العربية أو الاتحاد الأوروبي، مثلما كان الموقف الداخلي في العراق حاسما في تغيير النوايا التي كان يخطط لها أردوغان، وبما يجعل معركة تحرير الموصل القادمة تأخذ أبعادا دولية، وأبعادا اقتصادية تتعلق بتحمل تبعات الحرب وتكاليفها.
السياسات والمواقف
ما يثير في هذه الوقائع هو حمولتها السياسية الفاضحة التي عبّر عنها العديد من القادة الأتراك، فضلا عن مرجعيات مواقف بعض الدول العربية والتي حاولت أن تجد تبريرا خجولا وغير مُقنع لهذا التدخل، وللتخفيف من حمولته الأمنية والسياسية في منطقة هي مأزومة أصلا، والتي لا يمكن فصلها عن ما يحدث في سوريا أو المنطقة بشكل عام.
العجز عن إيجاد توصيف حقيقي لهذه الأزمة المفتعلة يعني إمكانية جرّ المنطقة الى أزمات أخرى، والى فتح الباب على تدخلات من الصعب السيطرة على تداعياتها الأمنية والسياسية، مثلما يعني الاضرار بمصالح تركيا الاقليمية مع العراق على مستوى التبادل التجاري والبالغ أكثر من 13 مليار دولار، وكذلك على مستوى المصالح المشتركة السياسية والسياحية والمائية وحتى الأمنية..فضلا عن الخوف من أن يكون هذا التدخل بابا لإيجاد محاور اقليمية معقدة ستنعكس تأثيراتها سلبا على تركيا، وعلى واقعها الأمني والاقتصادي.
انسحاب القوة القتالية من معسكر بعشيقة كما تقول التقارير يعني أن أردوغان قد أدرك حجم خطورة العناد، والإصرار على بقاء هذه القوة، والتي قد تُعرضه الى ضغوط دولية، والى مواجهات مفتوحة على الكثير من الاحتمالات، وأن حرجه من اتخاذ مثل هذه الخطوة لا يصمد أمام أخطار ما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات لها تعقيداتها على المنطقة.
كما أن التنسيق الروسي الأميركي لإيجاد معالجات للملف السوري، قد يكون سببا في التسريع بهذه الخطوة لتكون حساباته خارج السياق وبعيدة عن الواقع، وهو ما قد يبرر لبعض الدول العربية تدارك مواقفها غير المسؤولة من هذه الأزمة والتناغم مع الواقع الجديد، والذي يستدعي الواقعية والعقلانية، والدعوة لاعتماد العلاقات الدولية وأطرها الدبلوماسية في اتخاذ مواقف وقرارات تنأى بنفسها عن الحساسيات، والتفرد باتخاذ قرارات لا تتفق مع مصالح هذه الدولة أو تلك.





