عرفت صديقنا أبا عامر، ومنذ تلك اللحظة مهتما بإدارة ندوة الجمعة وكان يتناوب على الموضع أحيانا مع الشهيد الراحل عبد العظيم الصفار، وأنا كنت من المواظبين على حضور هذه الندوة، إذ كثيرا ما يجذبني الى تلك الندوة الصديق الشهيد سعد جاسم حمادي الذي غيب في سجون الطاغية بعد أن اقتيد الى أقبية الأمن السرية، ولم نعد نعرف عن مصيره أي شيء حتى هذه اللحظة. المهم أن صباح المرزوك، كان مهتما بالجانب الثقافي منذ بواكيره، ولم يكن الجانب الأكاديمي إلا مكملا لرغبته في الانتماء الى مدرسة الأدب والثقافة، وكان لاهتمامه الذاتي بتطوير أدائه في الحياة الثقافية دور فاعل في اندراجه في فعاليات الوسط الثقافي المختلفة .. إذ تشده الى هذا الميدان استجابة داخلية وإنسانية بوصفه إنسانا مؤمنا بقيمة الكلمة، ومؤمنا بالحياة التي يؤسسها الإبداع. امتدت بنا الحياة وتقاذفتنا لججها من كل جانب .. حروب .. وحصارات .. وجوع .. وتشتت، وأصبحنا لا يرى واحدنا صاحبه إلا لماما، وخصوصا في الحقبة الرمادية التي عاشها ابن الفرات .. تفرق شملنا .. وأصبحت الكلمة محذورة في الكثير من الفعاليات ، وأصبح العديد من أهل الأدب محسوبين على المناوئين للسلطة ..فزهدنا في ما كنا نصبو إليه، وأمست الكلمة محسوبة، وربما تقود صاحبها الى المصادرة أو الموت. هكذا تفرق كل منا الى مكان، ولم نعد نعرف لتلك الندوة الراسبة في ضمائرنا أي جدوى، وحين يرى أحدنا الآخر يلجأ الى نكران المعرفة به مسبقا، وأصبح التجمع في مثل هذه الملتقيات ممنوعا، حتى ذهب كل واحد منا في سبيله وحياته الخاصة. تمر الأيام والليالي وصباح المرزوك بقي ذلك المتطلع الى صناعة حياته بإرادته، ولم يدركه الإحباط أو اليأس، حيث ظل متواصلا لتحقيق حلمه، وتأكيد ذاته في حبه للثقافة والأدب، حتى أصبح تدريسيا في مدارس مدينته الحلة ، وكان همه الوحيد أن يغني مادته، وينفع طلابه بما يجود به اجتهاده في العربية من تواصل مع المناهج التعليمية والتربوية بأي ثمن. لقد تفرق مرتادو الندوات .. وتفرق مرتادو مجالس الأدب والحسينيات، ولم نعد نسمع بالمرزوك، ذلك الإنسان الحفي المراقب للمشهد الثقافي في بابل، وذلك المتابع لمفردات البرامج الثقافية في مختلف مرافقه المؤسسية وغير المؤسسية، حيث عرفت انه غادرنا الى مدينة أخرى .. مدينة كركوك، وهناك استطاع أن يؤسس مع أدبائها شبكة من العلاقات الأدبية والثقافية، حتى أصبح لديهم معروفا، وكأنه ابن مدينتهم الذي نهض من ذلك التراب. لقد قيضت له الفرصة أن يستعيد مجده الأدبي، وان يستثمر عشقه للثقافة بالذهاب الى تركيا لإكمال الشوط الجديد من دراسته العليا ، حيث أسست هذه الانطلاقة الجديدة مشروع المرزوك الثقافي وتحقيق الأماني التي طالما كانت تراوده وهو يدلف الى ميدان الثقافة، وعاد أستاذا تدريسيا في مدينته بابل، وفي جامعتها البكر، وكان مؤسسا لقسم اللغة العربية فيها، واستطاع بدوره الجديد أن يسهم في رفد الثقافة البابلية، والثقافة العراقية الجديدة، ومن خلال حضوره المألوف في اتحاد الأدباء ، ومساهمته في الكثير من النشاطات الثقافية ، إضافة الى حضوره في المؤسسة الأكاديمية ورعايته لأبنائنا ممن كانوا ينهلون دروس العربية على أياديه الكريمة، وقد كان في كل ذلك أمينا وحكيما في التفاعل مع الثقافة الجامعية ورعاية الشباب ممن يطلبون العلم على الرغم من عدم قناعته المؤكدة بالكثير من الموجهات الإيديولوجية التي ينتهجها النظام آنذاك لتدجين الأستاذ والطالب على حد سواء، وارتهان إرادتهما بعيدا عن روح العلم والثقافة. المرزوك عانى الكثير من المتاعب وواجه بصبر وأناة كل ما يحط من طموحه ورغبته، وليس كل ما يعرف يقال، فالرجل استطاع أن يخط له اسما، ويحفر له تاريخا بالأظافر، وها هو يكتب .. ويؤلف بصمت ونكران ذات، يؤلف في المعاجم، وفي السيرة حيث أصبح مؤرخا يشار إليه بالبنان، ومؤرشفا تقصى الثقافة العراقية بدقائقها، وكان معجمه الصادر عن وزارة الثقافة شاهدا على ذلك ، وغيرها من الكتابات التوثيقية التي لا يمكن أن يستغني عنها أي باحث، وهناك كتابات ومؤلفات أخرى تناولت السياب ونازك الملائكة ونجيب محفوظ، وسواهم من الأسماء. لقد تخصص الراحل المرزوك بهذا الميدان الذي وجد فيه ذاته، حيث كان له قصب السبق في ارتياد هذا العالم، عالم التوثيق والأرشفة، وكان يمكن أن يكون المرزوك بفعل هذا التلقي والمجاهدة مع الكتابة.. ناقدا متميزا للأدب . ناقدا للشعر والقصة والرواية، ولاسيما انه عاشق لا يمل من ملاحقة الإبداع والمبدعين … يبحث عن نشاطاتهم .. وعن حضورهم .. وهو الشغوف بمعرفة أسمائهم والمتابع الذي لا يتوانى عن الحضور في النشاط الثقافي في أي مكان. ولا يخفى علينا أن مسارات الدكتور المرزوك التربوية، والثقافية عصية على الإحصاء ، فالرجل كان في ذروة العطاء وإنتاج الثقافة والمعرفة، وان الذي بين أيدينا من إصداراته في شتى الميادين كاف لتسجيل تاريخه الثقافي والتربوي بمداد من ذهب، وكان ذا ذاكرة ارشيفية لا يدركها النسيان. وكان قبل رحيله مهموما بالكثير من المشروعات الثقافية والإبداعية التي لم تصل يده إليها لانجازها حتى اللحظة لأسباب عابرة: مادية .. أو مرحلية .. ويكفينا فخرا واعتزازا أن يكون المرزوك .. ذلك الإنسان المتواضع .. والأديب المبدع .. والتربوي النبيل واحدا ممن أنبتتهم هذه الأرض الطيبة .. ارض بابل المعطاء. .

عبد الأمير خليل مراد
تعرفت على صباح نوري المرزوك أواخر الستينيات من القرن الماضي وعندها كنت يافعا، ومولعا بكتابة الشعر، حيث كنا نرتاد حسينية ابن إدريس الحلي أيام الجمعة من كل أسبوع، إذ تقام بعض النشاطات الثقافية قبل الصلاة، ويجري تقديم بعض القراءات الشعرية، أو المحاضرات الدينية، وكان اغلبها قراءات ذات امتداد توعوي وتربوي، وبعضها ذات طابع ديني محض.