
بقلم: ديفد إغناتيوس
ترجمة – أنيس الصفار
عند كتابة التقارير عن “داعش”، أو ما يسمى “الدولة الاسلامية”، فلا مفرّ أن يعني هذا الاطلاع على مقاطع الفيديو التي تصدرها هذه الجماعة، وهو شيء لا أتمناه لأحد، فقد انشأت الجماعة المذكورة لها على شبكة الانترنيت مسرحاً عاماً تقدم عبره عروض الموت .. على هذا المسرح تقطع رؤوس الناس ويغرقون ويحرقون وتهشّم عظامهم.
هذه الوحشية المتناهية جزء من البصمة التي ميّزت بها “داعش” نفسها، وهي بصمة يقصد منها زرع الرعب في القلوب، وقد نجح هذا المقصد. الغاية من تلك المشاهد المسرفة في العنف هي إرسال رسالة وعيد للعدو، كما أنها في الوقت نفسه، وإلى درجة مقلقة، عامل تحفيز للمجنّدين من صغار السن. لقد تمكن “فرسان الجهاد” هؤلاء، كما يحبون أن يتخيلوا أنفسهم، من اختلاق صيغة مميزة المعالم من صيغ حرب الاتصالات الحديثة.
إلا أن عروض القسوة العلنية هذه ليست بالشيء الجديد أو الفريد. يرجع كثير من الناس أفعال “داعش” هذه إلى “العصور الوسطى” لأنها تذكّرهم بعروض التعذيب العلني الذي كان ذات يوم أمراً مألوفاً في ساحات المدن في بريطانيا وفرنسا وسواهما من البلدان الأوروبية.
الابتكار الذي أضافته “داعش” هو بثها هذا النوع من التنكيل عبر شبكة الانترنيت. الجزء الصوتي من هذه العروض عادة ما يكون تلاوة لآيات من القرآن تصاحبها ترانيم بالعربية، أو كما تسمى “الأناشيد”. أما الجزء الصوري فهو الذي يحمل روحاً وحشية همجية تتعدى كل حدود الدين والثقافة. في هذا المحفل يقف أدعياء الجهاد على قدم المساواة مع النازيين الألمان ومحرقتهم ومع توركيمادا ورهبان التحقيق في محاكم التفتيش الاسبانية. ربما كان ادعياء الجهاد يعتقدون أنهم بذلك يقلّدون أسلوباً مارسته الولايات المتحدة مع أعضاء تنظيم القاعدة يسمى “الإيهام بالغرق”، ولكن ذلك كان تعذيباً لا عملية إعدام علنية دموية بشعة.
إذا ما قمت بإخماد أصوات الإنشاد فسوف تبرز لك بوضوح الوشيجة الأخوية التي تنتمي إليها “داعش” في حقيقة أمرها، فهذه الجماعة هي الدليل الأحدث على قدرة الانسان، التي تكاد تكون عامة لا يستثنى منها أحد، على الإتيان بأفظع الأعمال البربرية مع من يعتبرهم “الآخرين” والمارقين الكفرة والتعامل معهم على اعتبارهم شكلا مختلفا من أشكال الحياة.
على مدى الاسابيع الماضية أصدرت “داعش” عدداً من مقاطع الفيديو كانت مقلقة بعض الشيء، وسوف أصفها هنا مستعيناً باللغة التي استخدمتها “مجموعة سايت للمعلومات الاستخبارية”، وهي جهة متخصصة بالرصد والمتابعة تعمل على جمع وترجمة المواد التي يصدرها المتشددون.
أحد المقاطع من محافظة نينوى استعرض عملية إعدام ستة عشر شخصاً اشتبه بأنهم جواسيس حيث أغرق بعضهم وهم محتجزون داخل قفص وأطلقت على بعضهم الآخر قذيفة “آر بي جي” بعد وضعهم داخل سيارة وأحرق المتبقون أو قطعت رؤوسهم بحبل ناسف لفّ حول أعناقهم. وهناك مقطع آخر من مدينة الفلوجة يصور عملية إعدام اربعة اشخاص زعم أنهم مثليون وذلك بإلقائهم من أعلى بناية.
تزهو “داعش” وتفاخر بصور فظائعها، وقبل فترة انتخب مركز حياة الإعلامي التابع للجماعة شريط الإغراق والحرق وقطع الرؤوس ليكون الأول على رأس قائمة أفضل عشر مقاطع فيديو من العراق.
فما هو أصل هذه الافعال التي يعجز عن وصفها اللسان؟ لقد درس الفلاسفة وعلماء الانثروبولوجيا هذه المسألة وهم في مسعاهم لإيجاد طريقة يقيّمون بها الطبيعة البشرية حين تكون في أشدّ صورها بدائية وبعداً عن التحضر. وقد استطلعت “إيلين سكاري”، أستاذة الأدب في جامعة هارفارد، من خلال كتابها “الجسد حين يتألم” الذي أصدرته في 1985 عملية وصفتها بأنها “تحويل الألم إلى خرافة الجبروت”.
ففي القرون الوسطى كان الموقع الذي يختار لعرض القوة هذا هو مكان للتجمع يصلح لأن يكون مسرحاً بالمعنى الحرفي، وهناك يتواصل الحس المسرحي. كتبت سكاري تقول: “ليس من قبيل الصدفة أن تكون التسميات التي اختارها ممارسو التعذيب للمواقع التي يمارسون فيه فظائعهم، وفقاً لمصطلحاتهم، أشياء مثل: غرفة الانتاج (كما في الفلبين) وغرفة السينما (كما في فييتنام الجنوبية) ومسرح الضوء الازرق (كما في شيلي)”.
يرى الفيلسوف الفرنسي “مايكل فاوكولت” أن مستوى الوحشية في العقاب مؤشر دال على درجة تطوّر المجتمع، فعمليات الإعدام العلنية المروّعة كانت شائعة في أوروبا حتى أواخر القرن الثامن عشر، والموت البطيء المؤلم كان في كثير من الأحيان جزءاً ملازماً لا يتجزأ من المشهد. أما المقصلة، التي نراها اليوم وسيلة قاسية، فقد كانت تعتبر وسيلة إنسانية في زمن الثورة الفرنسية لأنها كانت كما يصفونها “آلة لإحداث موت سريع ورصين”.
يصف فاوكولت في كتابه: “الانضباط والعقاب: مولد السجن” الذي أصدره في 1975 أخلاقيات العقاب الجزائي ما قبل العصر الحديث، التي يبدو اليوم أن “داعش” تعتنقها، على النحو التالي: “لا يكفي أن يعلم الناس بوجود العقاب بل يجب أن يروه بأعينهم، لأنهم يجب أن يسشعروا الخوف كما يجب أيضاً أن يكونوا الشهود والضامنين.”
تحوّلت المجتمعات الأوروبية إلى العصرية والتمدّن عندما أحلت القوانين الجزائية محل هذه الطقوس الدموية، وهي قوانين اعتبرت السجون مؤسسات “للتقويم” أو “إصلاحيات” أو مؤسسات “للتوبة”، وإن كان فاوكولت يحذر من أن لها خصائص قمعية.
بجمعها الشاذ الغريب بين الحداثة وما قبل الحداثة أعادت “داعش” إحياء الممارسة القديمة .. ممارسة التعذيب في مشهد علني أضفت عليه لمسة ألعاب الفيديو البراقة.
حين نتأمل “داعش” ينبغي علينا فصل الصوت عن الصورة، لأن الصوت قد يكون مستمداً من التقاليد الاسلامية، ولكن الصور ليست من الدين في شيء ولا هي قائمة على أساس، اللهم إلا تلك النزعة البشرية التي تتلذذ بآلام الآخرين.