يعيش العراقيون اليوم واحدة من اسوأ الكوارث التي تعرض لها العراق عبر التاريخ المعاصر. وأقول كارثة لأن ريح الإرهاب التي تعصف بالعراق اليوم لا تختلف ولا تقل شراسة او اثراً عن أية كارثة طبيعية يمكن ان يتعرض لها أي بلد في العالم، مثل كارثة تسونامي التي ضربت اليابان في العام 2011، وهي محور الحديث هنا، والتي سمعنا عنها عبر وسائل الاعلام. ولكن التعايش مع الكارثة يختلف عن السماع عنها. ولا شك ان العالم لا يدرك حجم الكارثة التي تضرب العراق، اذ لا يدرك حقيقة حجمها الا من كان على تماس مباشر مع الكارثة، نحن العراقيين، وشاءت الاقدار ان أكون على تماس مباشر مع كارثة اليابان في العام 2013 ، فقد حصلت في الفترة التي نلت اثناءها شرف تمثيل بلادي كسفير للعراق لثلاثة أعوام، حيث شهدت تحدي الشعب الياباني وروعة ما سجله للتاريخ في طريقة مواجهته للكارثة التي تهدف هذه السطورالى توضيح هذه التجربة وكيفية تعاطيه معها لنتمكن، نحن العراقيين، من الاستفادة منها، وهو امر ممكن وضروري.
حجم الكارثة
كما يتعرض العراق الى كارثة تعصف بجميع مفاصل حياة العراقيين السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية تحت غيمة أعنف هجمة إرهابية في التاريخ المعاصر، فقد تعرضت اليابان الى كارثة كبرى من ثلاث انواع ومراحل. بدأت المرحلة الأولى بتعرض سواحلها ولمدة 6 دقائق متواصلة الى زلزال بقوة 9 درجات على مقياس رختر، وهو ثاني أعنف زلزال مسجل في التاريخ المعاصر بعد زلزال باندا اتشيه في سومطرة في العام 2004 الذي بلغت قوته 9.1 درجة، وبرغم من تصميم المباني في اليابان بشكل مخصص لمقاومة الزلازل، الّا ان اساسات بعضها لم تتحمل قوة الزلزال المهولة.
والمرحلة الثانية بعد اقل من ساعة من وقت حدوث الزلزال، اذ ضربت اليابان اولى موجات تسونامي الهائلة التي ولّدها الزلزال. حيث وصل ارتفاعها في بعض المناطق الى 40 متراً، فدمرت جدران الحماية من الأمواج البحرية التي ترتفع الى 12 متراً في بعض المناطق واجتاحت اليابسة ودمرت كل ما كان في طريقها من ابنية ووصلت في بعض الاماكن الى مسافة 10 كيلومترات داخل اليابسة لتغرق مساحة 561 كيلومترا مربعاً.
قوة الامواج الناجمة عن الزلزال تسببت في بلوغ المرحلة الثالثة في فشل منظومة التبريد لمحطة فوكوشيما الذرّية لتوليد الطاقة الكهربائية وهو ما ادّى الى انصهار قلب المفاعل وإطلاق إشعاعات ذرية وتلوث المناطق المجاورة ومياه البحر التي تسربت الى المفاعل.
آثار الكارثة وتداعياتها
وقعت الكارثة بتاريخ (11 آذار2011)، ووصل العدد المؤكد للوفيات بسببها في (10 نيسان 2015 ) الى 15 ألف و891 ضحية مع أكثر من 2500 مفقود، و6 آلاف جريح، ونزوح أكثر من 500 ألف شخص عن منازلهم وتدمير 45 ألف و700 مبنى بالكامل وتضرر 144 ألف و300 مبنى اخر. كما خلفت الكارثة حوالي 25 مليون طن من الركام. ولمنع حدوث كارثة أكبر، فقد بدأت شركة الكهرباء باستخدام مياه البحر لتبريد المفاعل وإطلاق ما يقرب من 300 طن يوميا من المياه الملوثة الى المحيط. وهو ما تسبب بالقضاء على الحياة البحرية في عدة أماكن وقطع اهم مصادر الغذاء لليابان. ووصلت الخسائر المادية والاقتصادية لليابان الى ارقام فلكية ولا زال تأثيرها قائما حتى اليوم.
تأثير الكوارث على العالم
مثلما لا يقتصر خطر الإرهاب وايديولوجيته السامّة والملوثة فقط على العراق والعراقيين – اذ امتد الى دول ومناطق أخرى في العالم ويقع ضحيته كل يوم العديد من الابرياء في كل مكان – لم يقتصر تأثير الزلزال وموجة التسونامي والكارثة النووية على اليابان فحسب، فقد اثرت الهزة الأرضية على محور دوران الأرض وتسبب ذلك في تقصير طول اليوم بنحو ميكروثانية، وأطلقت المباني التي دمرها الزلزال الاف الاطنان من المواد الكيميائية المدمرة لطبقة الاوزون، وانتقلت أمواج التسونامي عبر المحيط الهادي ووصلت الى هاواي وتشيلي بارتفاع مترين على بعد 17 ألف كيلومتر، وقامت روسيا بإخلاء 11 ألف شخص من المناطق الساحلية، وجرفت تلك الأمواج شخصا في إندونيسيا واخر في كاليفورنيا حيث لقيا حتفهما، كما تسببت مياه المحيط الملوثة بالإشعاع في قتل الحياة البحرية في رقعة شاسعة ووصل التلوث الى سواحل الولايات المتحدة (بنسب واطئة).
ومثلما يحاول ويساهم علماء الحكمة في العراق حقن الدماء وإنقاذ البلاد من الفتنة ودحر داعش ومن يسير على نهجه بالدعوة الى التهدئة ونبذ مبدأ الانتقام (على عكس داعش وغيرهم ممن يحرضون على الفتنة ويستبيحون جميع المقدسات) وبذل اقصى الجهود والصبر لوقف هذا النزيف، فقد حاول العلماء في اليابان تخفيف أثر الكارثة قبل وقوعها ونجحوا فعلاً في ذلك، فقد وصلت رسائل التحذير التي أطلقتها منظومة الإنذار المبكر للهزات الارضية الى طوكيو قبل دقائق من وقوع الزلزال، وهو ما ساهم في حفظ أرواح عشرات الآلاف بوقف القطارات السريعة وخطوط الإنتاج في المعامل واللجوء الى أماكن آمنة. ولولا تلك الرسائل، لفاق عدد الضحايا في اليابان ضحايا زلزال سومطرة الذي بلغ عدد ضحاياه 230 ألف شخص.
وبالرغم من تلك الجهود، فقد فاقت ابعاد كارثة اليابان وتداعيتها حدود التصور وما يمكن وصفه، ولا داعي لوصف مأساة العراق ونحن لا نزال نعيشها. ولكن الفرق بيننا وبين اليابانيين يكمن في حيثيات تعامل اليابانيين مع الكارثة وأسلوب التعاطي معها، فقد سجل اليابانيون نموذجاً رائعا في كيفية تعاطيهم وردة فعلهم بشكل إيجابي مع الكوارث الثلاث.
وقد حمّلت وكالة الأرصاد اليابانية نفسها المسؤولية واعتذرت لأنها لم تطلق تحذيرا يحدد الحجم الهائل لموجة التسونامي (علماً انها اطلقت التحذير، ولكن دون وصف دقيق). ولتفادي حدوث نفس الخطأ ولتحسين أدائها، فقد تكبدت الشركة خسارة الملايين من الدولارات وقامت باستبدال منظومة الإنذار الحديثة اصلاً بأخرى أكثر تطوراً، وتم اعداد دراسات لتقوية أسس البنايات لتتمكن من تحمل الزلازل ورفع جدران الحماية من الأمواج البحرية. اما بالنسبة للمفاعل النووي، فقد قال اليابانيون اننا من صنعنا هذه الكارثة ونحن كنا ضحيتها، وتأسفوا لأنهم كانوا سببا لأذى الدول الأخرى والطبيعة وتوقفوا عن استخدام المفاعل النووي لتوليد الطاقة مع انهم يعتمدون بنسبة 30 بالمئة من انتاج الكهرباء على الطاقة الذرية. اما الحكومة فقد استجابت باستحداث وزارات ومؤسسات جديدة وعينت وزراء جددا، مثل (وزارة الحوادث النووية والإجراءات الاقتصادية المضادة، وزارة إعادة الاعمار استجابةً لزلزال شرق اليابان الكبير، ووزارة شؤون المستهلك والامن الغذائي ووزارة الترويج لتقنين استهلاك الطاقة). كما استجاب الشعب الياباني للكارثة بدعمه الكامل لإجراءات الحكومة وجهود الإغاثة والاعمار، فانخفض مستوى الجريمة في المناطق المنكوبة ورحبوا بالخبراء والعلماء الذين هرعوا من مختلف انحاء العالم للمساعدة في تخفيف آثار الكارثة.
اما نحن، فعلينا ان يكون تعاطينا ايجابيا في مواجهة عاصفة الإرهاب، التي تهب على بلادنا بشكل يساهم في التخفيف من وطأتها ومجابهتها، فما نرى من النقد الذي يتم توجيهه للأخطاء التي تحدث، غالباً ما يكون تأثيره سلبيا اكثر من كونه إيجابيا، والجهد الذي يبذل للخوض في مسببات المشاكل وتضخيم ابعادها اكثر بكثير من المبذول لإيجاد الوسائل في سبيل حلّها وتحجيمها، وتبادل التهم والتسرّع في الاحكام يطغي على النصح الصادق وبنوايا حسنة، والتشكيك ابتداءً في نوايا كل من يرغب في مد يد العون لنا اصبح تقليدا يحجب عن بصيرتنا الاستفادة من كل ما يُقدم لنا وصرنا نتوعد ونهدد من يحاول نجدتنا!.
الخطر المحدق بنا يفوق في درجة تعقيده استعداداتنا، ويتوجب علينا استغلال جميع امكانياتنا، وهي ليست قليلة، لدرئه ومواجهته. علينا بالمراجعة الحقيقة لاسباب الكارثة ودروسها وبناء ثقافة النقد الهادف والبحث في تفاصيل طبيعة التحدي وحجمها الصحيح وإيجاد الوسائل لحلها وعلى جميع الاطراف والمستويات وتبادل الحوارات الحقيقية بدل القاء التهم وتجاهل وصايا اهل العلم والحكمة. ان ما يجري علينا ليس قضاء وقدرا، بل هي إرادة الشر ومن يضمر الحقد على العراق والعراقيين وسنتمكن من مواجهته ورده بإذن الله والتوكل عليه جل وعلى: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ ۖ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) الجن 13.
اليابان، شعباً وحكومةً، سلكت طريق نكران الذات وتحمل المسؤولية والبحث عن وسائل الإصلاح والتسامح مع عزيمة راسخة للنهوض من كبوتها. نحن نعيش في نفس الزمان ويحيط بنا نفس العالم، قد تختلف طبيعة شعوبنا وظروفها ولكن لماذا لا نعتبر ونستفيد من تجارب الاخرين! وان لم يتطابقوا مع طبيعة شعوبنا وظروفنا؟ اما آن الأوان لنتحمل كلنا، وكلٌ من موقعه السياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي المسؤولية ونسخر تجارب الغير لبناء امتنا المجروحة؟ اما آن الاوان لنشخص أخطاءنا ونتحمل مسؤوليتها ونبحث عن سبل إصلاح وضعنا؟ الم يحن الوقت لنتحلى بأخلاق وتعاليم ديننا (لا أن ندعيها فقط) وعاداتنا وتقاليدنا في سبيل حقن دماء الأبرياء والرسو ببلادنا في بر الأمان؟
عراقنا بحاجة لنا، بحاجة لسواعد الكل، ندعو من الله ان يهدينا السبيل لنجدته ونجدة أنفسنا وان نحث السير نحو بناء العراق، فلنجعل من الأحجار التي تعترض طريقنا أساساً نقيم عليه بناءنا والضغط الذي نتعرض له سببا لتفجير الابداع فينا، فالساعة تدق.
* سفير جمهورية العراق
في واشنطن