بقلم: رشيد الخيُّون – 01-08-2015 | (صوت العراق) | نسخة سهلة الطبع
أعلن تنظيم “داعش” الإرهابي مسؤوليته عن مجزرة خان بني سعد، التي حصدت أكثر مِن مئة وعشرين نفساً من سوقها، ماعدا الجرحى بإصابات خطيرة، وما يترتب على ذلك مِن وفاة أو إعاقة، وأول مرة، حسب الإحصائيات الأولى، لمجازر بالعراقيين، أن عدد القتلى أكثر مِن الجرحى فيها، مما يوحي لك بلؤم القتلة. إنها مجزرة ليست ككلّ المجازر، ذلك إذا صار التَّفضيل بين مجزرة وأخرى، وقعت يوم أول أيام العيد، وفي سوق كانت مكتظة بالباحثين عن الرزق والفرح مع ندرته. قيل إن الانتحاري دخل بسيارة بوهم بيع المثلجات، وفي القيظ اللاهب يجذب بائع الثَّلج العطاشى، وكان الغرض الإغراء بتجميع أكثر مِن الضَّحايا، وتلك الحيلة عادة تستخدم مع الذُّباب، وحاشى الضَّحايا مِن هذا الوصف، لكنَّ القتلة لا يميزون بين الذُّباب والبشر، على اختلاف مذهب أو دين، وحسب اعتقاد الانتحاري، وفقهائه في هذا السُّلوك، كلما تزايد عدد الضَّحايا وسعت (الجنة) لهم، هكذا يفكّر “الجهاديون السلفيون” مِن أمثال القاعدة وداعش.
في ذلك اليوم اجتمع النَّاس للعيد أو لاستقباله، فقد اختلفت رؤية الهلال، مع أن السَّماء واحدة والدِّين واحد، بين أن يكون عشية الخميس أو عشية الجمعة، وفي هذا العام أعلن الوقف السُّني وبعض مراجع الشِّيعة رؤية الهلال عشية الخميس فكان العيد الجمعة، بينما أعلن مراجع آخرون، وهم الأكثرية، العيد يوم السبت، وكذلك اختلفت الدُّول في الرُّؤية. كانت، وربَّما مازالت، ناحية خان بني سعد مختلطة، مع أكثرية شيعية، ولهذا تكون احتفلت بأول العيد على يومين.
تقع ناحية خان بني سعد بين بغداد وبعقوبة، على الطَّريق القديم، تأسست كوحدة إدارية في العهد العثماني نهايات القرن التاسع عشر، ووردت كثيراً في حوادث الطَّريق بين بغداد وبعقوبة، قبل أن يُمد وتفتتح الطَّريق الجديدة عبر مدينة الخالص. إلا أن اسم المكان وتأسيسه كنقطة لحماية الطَّريق، المارة مِن بغداد إلى بهرز وبعقوبة، نقرأ عنه أقدم مِن هذا بكثير، ففي العام (1688 ميلادية/ 1100 هـ) كانت الطَّريق بين بغداد وقرية بهرز أرضاً جرداء فبنى وزير العِراق العثماني”خاناً محكماً، قوياً فأتمه وأنقذ النَّاس مِن قطاع الطُّرق، أتمه هذه السَّنة، وهذا الخان هو المسمى بخان بني سعد في منتصف الطَّريق، وكان يُسمى طريق بعقوبة القديم بطريق بهرز، ويمر مِن الباب الوسطاني (أحد أبواب بغداد القديمة)، والعوام يقولون: خان النّص”(العزاوي العراق بين احتلالين).
جاء لخان بني سعد ذكر خلال الحروب المتواصلة، والكرِّ والفرِّ بين الصَّفويين، القادمين مِن الشَّرق جهة بعقوبة، والعثمانيين في عهد المماليك الحاكمين ببغداد، وذلك العام 1821، في زمن داود باشا(ت 1851)، أن عسكرَ الجيش الصَّفوي بخان بني سعد، وتفشى بين جنوده مرض الهيضة (الكوليرا)، وظلت منه مفرزة هناك بعد أن عسكر بالقرب مِن بعقوبة (لونريك، أربعة قرون مِن تاريخ العراق الحديث). على أية حال، كان منشأ خان بني سعد عثمانياً ولغرض الحماية، حتى تحول إلى وحدة إدارية بمستوى ناحية تابعة لقضاء الخالص – لواء بعقوبة (ديالى حالياً)إلى جنوب شرق بغداد.
لعلَّ المجزرة الرَّهيبة التي وقعت في تاريخ (الجمعة 16 يوليو/ تموز 2015) أبلغ مِن وباء الهيضة، قياساً بعدد القتلى ونسبة عدد السُّكان بين الزمنين. وتراه لا يختلف عن أشد الطَّواعين التي مرت على المنطقة والعراق، والعبرة ليست بعدد القتلى إنما بطريقة الهلاك، ومنها الطَّاعون الذي عُرف بـ”أبي طبر”، وقد رافقه قحط شديد، إنحسار الماء سيحاً وديماً، حدث في السّنة التي تأسس فيها الخان المذكور وتكرر ما بعدها (1689)، فقد أستولى الجوع على النَّاس، ونزحوا مِن المدن الأُخر إلى بغداد هرباً مِن الطَّاعون والجوع، الذي “صار يفتك فتكاً ذريعاً فعادت بغداد مأتماً، وفي خلال ثلاثة أشهر أو أربعة دمرَّ المرض أكثر مِن مئة ألف نسمة”(العراق بين احتلالين).
كانت الطَّواعين تترادف على بغداد والمدن العراقية، بين عام وآخر، ولا تتوقف إلا بعد حصاد الألوف المؤلفة مِن الأنفس، هنا تأتي قيمة نشأت الطَّب الحديث بالعراق منذ بدايات العهد الملكي(1921-1958) متوجاً بفتح كلية الطِّب، التي أشتهرت بين مدارس الطِّب العالمية، ثم ذوت في ما بعد.
قياساً على ذلك، لو نظرنا في التفجيرات التي طالت بغداد، وبعقوبة حيث تتبعها إدارياً ناحية خان بني سعد، ومدن العراق الأُخر، لما افترقت الصُّورة بين التفجير والطَّاعون، ذلك وباء تم الخلاص منه، وآخر طاعون يؤرخ له السَّنة (1922) بعد فتح المستوصفات والمستشفيات وبذل التطعيم ضده، أما هذا فطاعون لا يفيد معه تطعيم ولا احتياط ولا هروب.
فإلى أين يهرب مَن رزقه بالسُّوق، وترى القتلة يتفنون بنوع التفجير ومقدار المواد المتفجرة. كانت الحمولة ثلاثة أطنان، وبعد تساقط القتلى وامتزاج الأجساد واختلاط الدَّماء ببضائع السُّوق أطلقت داعش على القاتل اسم أبي رُقية الأنصاري. تخيل لشدة الانفجار وكثرة القتلى تطايرت الأجساد إلى سقوف المباني، واستمر جمعها لأيام، إنه موت مِن نوع آخر، وجريمة ليس ككلّ الجرائم.
ماذا تريد داعش في هذا التَّوحش الطَّائفي؟ هل تعتقد أنها ستفني الشِّيعة مثلاً، وهم داخل سوق بين بائع ومشترٍ ومحتفل بالعيد، كسبة فقراء لا شأن لهم بأحزاب ولا مسلحين ولا سلطة ولا فساد بمال؟ أم تريد داعش تصعيد الخلاف الطَّائفي إلى حرب داحس والغبراء، وهي قائمة الآن، بين القوى التي جعلت مِن الدِّين والمذهب ستراً لمصالحها السِّياسية؟
لم تبق مدينة ولا قرية عراقية بعيدة عن الإعلام وشهرته، غدت مشهوره ليست بانتاج زراعي ولا صناعي ولا بسياحة، إنما بمقاتل رهيبة مِن فعل الأوبئة والطَّواعين. أقول: مَن كان وراء داعش؟ سؤال مازال “لُغز الحياة وحَيرة الألبابِ”! لا تظنوا بسُنَّةٍ تقتل شيعةً ولا بشيعةٍ تقتل سُنَّةً، إنها أبعد مِن هذا الوصف بكثير، فمَن ظنها هكذا يساهم في سترِ الفاعل، الذي قد يكون مفاجأة حتى للمنتحرين أنفسهم، فهم الآخرون ضحايا فعلةٍ “يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ…”(عن أبي سعيد الخدري).
ما كانت مجرزة خان بني سعد مِن فعل البشر بل مِن فعل الطَّواعين، تُدار بالريموت، لا أظن أن موجه الريموت سيبقى مستوراً إلى أبد الآبدين، ولصاحب خولة القول البليغ: “ستُبدي لكَ الأيام ما كنتَ جاهلاً/ويأتيك بالأخبار مَنْ لم تُزوَّدِ/ويأتيك بلأخبار مَن لم تَبع له/بتاتاً ولم تضرِبْ لهُ وَقَتَ موْعدِ”.
مجلة الخليخ