انتقام الطبيعة
بقلم: امين قمورية
قد يبدو الحديث الآن عن التلوث البيئي وتغيير المناخ في منطقتنا، ونحن في أتون نزاعات تحرق الأخضر واليابس، أقرب إلى المتع الفكرية او أضغاث الأحلام. لكن يكفي تصفح بضع المنشورات الصادرة عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية لإدراك حجم الاخطار التي تنتظر منطقتنا خلف الابواب، فقلة قليلة فقط تعرف ان أحد الأسباب الرئيسة للانتفاضة السورية عام 2011، كان تغيّر المناخ الذي ادى الى جفاف ضرب المناطق الزراعية الكبرى في سوريا، وهجر نحو مليوني مزارع إلى أحزمة الفقر حول المدن، ليكونوا لاحقاً جنود ووقود المنظمات المسلحة على أنواعها.
الامر عينه ينطبق على مصر حيث أن جزءاً من المعضلة المصرية السياسية – الاقتصادية الراهنة، سببه زحف الملوحة على الأراضي الزراعية، ما قوّض معيشة أكثر من 10 ملايين فلاح مصري. هذا في حين كان الانفجار الديموغرافي (المصريون الآن قاربوا التسعين مليونا) يتكفّل باستنزاف الموارد المائية والطاقة ونسف مستويات المعيشة، ويكاد يحيل القاهرة إلى مدينة تلوث غير قابلة للحياة السليمة.
وقل الأمر نفسه عن نواكشوط، عاصمة موريتانيا، المهددة الآن بالغرق تحت سطح البحر، والخلل الحراري الكبير في العراق بسبب إشعاعات وكيميائيات الحروب المتصلة، والدمار المائي والبيئي والاقتصادي الشامل في اليمن بسبب الحروب، والتناقص الهائل في موارد مياه الزراعة في معظم الدول العربية. حتى لبنان الغني بموارده المائية، عرضة الآن إلى خطر نقص المياه ليس فقط بسبب المليون ونصف المليون نازح سوري الذين يضغطون بقوة على هذه الموارد، بل أيضاً لأن الفوضى البيئية في بلاد الأرز تؤدي إلى تلويث العديد من خزانات المياه الجوفية، وتكاد تصحّر بلداَ لطالما اشتهر في التاريخ بخضاره الفاقع وغاباته الغناء التي تقلّصت الآن إلى أقل من 6 بالمئة من المساحة العامة للبلاد.
وجاءت الحروب والنزاعات، التي ضربت نصف البلدان العربية خلال السنوات الخمس الأخيرة، لتفاقم المشاكل البيئية التي تواجهها المنطقة، والتي كانت كبيرة أصلاً. ومعظم الدول التي لم تصب مباشرة بالأحداث تعاني من ضغط ملايين النازحين، كما هو حال السوريين في الأردن ولبنان والليبيين في تونس ومصر. النزاعات المسلحة ضربت إنتاج الغذاء بتحويلها مساحات شاسعة إلى أراض غير صالحة للزراعة، وقضت على توازن الموارد الطبيعية، وتسببت بتلوث حاد للمياه والهواء والتربة.
كل هذه المعطيات تقود إلى حصيلة واحدة: المنطقة العربية تعيش تحت وطأة كارثة بيئية – ديموغرافية طاحنة، حتى ولو وضعنا جانباً مسـألة الحرارة وتغيّر المناخ العالمي، فما بالك الآن وقد باتت تأثيرات تغيُّر المناخ تحدث هنا والآن، وليس بعد 50 أو مئة سنة كما كان بعض العلماء يتكهنون؟ كيف ستكون صورة المنطقة حين تتقاطع الكارثة البيئية – الديموغرافية مع خطر الاحترار العالمي الزاحف؟
المسألة تحتاج إلى حلول سريعة. لكن مثل هذه الحلول تحتاج أولاً إلى وعي بيئي – كوني جديد، لا يبدو أن النخب الحاكمة في الدول العربية تقبله أو حتى تعترف بالحاجة إليه.
في الولايات المتحدة، بدأ هذا الوعي يفرض شيئاً فشيئاً وجوده على أجندات القادة السياسيين، فالرئيس الأميركي أوباما بادر إلى وضع قيود بيئية جديدة حتى على الغاز الصخري، رغم أن هذا الأخير أحدث ثورة طاقة ضخمة في الولايات المتحدة. كما تعهد أوباما بخفض الغازات الحبيسة قبل عام 2030.
وفي بعض الدول الأوروبية، يبدو نفوذ هذا الوعي واضحاً في كل القرارات التي تتخذها حكومات هذه الدول، لاسيما مثلاً منع استخراج النفط والغاز الصخريين في أراضيها لأنه يؤدي الى الزلازل وتلوث المياه الجوفية.
نحن في منطقتنا في أمس الحاجة إلى بلورة مثل هذا الوعي، الذي بات أهم بكثير من كل فنون السياسة والاقتصاد. كما نحتاج أيضاً إلى وضع المسألة المائية البيئية ومشكلة تغيّر المناخ على قمة أولوياتنا. وهذا هدف لن تصنعه حكوماتنا، بل يجب أن يكون من مسؤولية المنظمات غير الحكومية وهيئات المجتمع المدني، ولا سيما الجمعيات النسائية التي يهمها بالدرجة الأولى (وعلى عكس الرجال) حماية الأطفال من خلال إنقاذ البيئة التي يترعرعون في أحضانها.
وما لم ننصت اليوم إلى رسائل الإنذار هذه، ونتحرّك بشكل جماعي للاستجابة لها، ستواصل الطبيعة مسلسل انتقامها، وهو انتقام سيكون هائلاً حقاً، وفظيعاً حقاً، وشاملاً حقا.
*كاتب وصحفي لبناني
قد يبدو الحديث الآن عن التلوث البيئي وتغيير المناخ في منطقتنا، ونحن في أتون نزاعات تحرق الأخضر واليابس، أقرب إلى المتع الفكرية او أضغاث الأحلام. لكن يكفي تصفح بضع المنشورات الصادرة عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية لإدراك حجم الاخطار التي تنتظر منطقتنا خلف الابواب، فقلة قليلة فقط تعرف ان أحد الأسباب الرئيسة للانتفاضة السورية عام 2011، كان تغيّر المناخ الذي ادى الى جفاف ضرب المناطق الزراعية الكبرى في سوريا، وهجر نحو مليوني مزارع إلى أحزمة الفقر حول المدن، ليكونوا لاحقاً جنود ووقود المنظمات المسلحة على أنواعها.
الامر عينه ينطبق على مصر حيث أن جزءاً من المعضلة المصرية السياسية – الاقتصادية الراهنة، سببه زحف الملوحة على الأراضي الزراعية، ما قوّض معيشة أكثر من 10 ملايين فلاح مصري. هذا في حين كان الانفجار الديموغرافي (المصريون الآن قاربوا التسعين مليونا) يتكفّل باستنزاف الموارد المائية والطاقة ونسف مستويات المعيشة، ويكاد يحيل القاهرة إلى مدينة تلوث غير قابلة للحياة السليمة.
وقل الأمر نفسه عن نواكشوط، عاصمة موريتانيا، المهددة الآن بالغرق تحت سطح البحر، والخلل الحراري الكبير في العراق بسبب إشعاعات وكيميائيات الحروب المتصلة، والدمار المائي والبيئي والاقتصادي الشامل في اليمن بسبب الحروب، والتناقص الهائل في موارد مياه الزراعة في معظم الدول العربية. حتى لبنان الغني بموارده المائية، عرضة الآن إلى خطر نقص المياه ليس فقط بسبب المليون ونصف المليون نازح سوري الذين يضغطون بقوة على هذه الموارد، بل أيضاً لأن الفوضى البيئية في بلاد الأرز تؤدي إلى تلويث العديد من خزانات المياه الجوفية، وتكاد تصحّر بلداَ لطالما اشتهر في التاريخ بخضاره الفاقع وغاباته الغناء التي تقلّصت الآن إلى أقل من 6 بالمئة من المساحة العامة للبلاد.
وجاءت الحروب والنزاعات، التي ضربت نصف البلدان العربية خلال السنوات الخمس الأخيرة، لتفاقم المشاكل البيئية التي تواجهها المنطقة، والتي كانت كبيرة أصلاً. ومعظم الدول التي لم تصب مباشرة بالأحداث تعاني من ضغط ملايين النازحين، كما هو حال السوريين في الأردن ولبنان والليبيين في تونس ومصر. النزاعات المسلحة ضربت إنتاج الغذاء بتحويلها مساحات شاسعة إلى أراض غير صالحة للزراعة، وقضت على توازن الموارد الطبيعية، وتسببت بتلوث حاد للمياه والهواء والتربة.
كل هذه المعطيات تقود إلى حصيلة واحدة: المنطقة العربية تعيش تحت وطأة كارثة بيئية – ديموغرافية طاحنة، حتى ولو وضعنا جانباً مسـألة الحرارة وتغيّر المناخ العالمي، فما بالك الآن وقد باتت تأثيرات تغيُّر المناخ تحدث هنا والآن، وليس بعد 50 أو مئة سنة كما كان بعض العلماء يتكهنون؟ كيف ستكون صورة المنطقة حين تتقاطع الكارثة البيئية – الديموغرافية مع خطر الاحترار العالمي الزاحف؟
المسألة تحتاج إلى حلول سريعة. لكن مثل هذه الحلول تحتاج أولاً إلى وعي بيئي – كوني جديد، لا يبدو أن النخب الحاكمة في الدول العربية تقبله أو حتى تعترف بالحاجة إليه.
في الولايات المتحدة، بدأ هذا الوعي يفرض شيئاً فشيئاً وجوده على أجندات القادة السياسيين، فالرئيس الأميركي أوباما بادر إلى وضع قيود بيئية جديدة حتى على الغاز الصخري، رغم أن هذا الأخير أحدث ثورة طاقة ضخمة في الولايات المتحدة. كما تعهد أوباما بخفض الغازات الحبيسة قبل عام 2030.
وفي بعض الدول الأوروبية، يبدو نفوذ هذا الوعي واضحاً في كل القرارات التي تتخذها حكومات هذه الدول، لاسيما مثلاً منع استخراج النفط والغاز الصخريين في أراضيها لأنه يؤدي الى الزلازل وتلوث المياه الجوفية.
نحن في منطقتنا في أمس الحاجة إلى بلورة مثل هذا الوعي، الذي بات أهم بكثير من كل فنون السياسة والاقتصاد. كما نحتاج أيضاً إلى وضع المسألة المائية البيئية ومشكلة تغيّر المناخ على قمة أولوياتنا. وهذا هدف لن تصنعه حكوماتنا، بل يجب أن يكون من مسؤولية المنظمات غير الحكومية وهيئات المجتمع المدني، ولا سيما الجمعيات النسائية التي يهمها بالدرجة الأولى (وعلى عكس الرجال) حماية الأطفال من خلال إنقاذ البيئة التي يترعرعون في أحضانها.
وما لم ننصت اليوم إلى رسائل الإنذار هذه، ونتحرّك بشكل جماعي للاستجابة لها، ستواصل الطبيعة مسلسل انتقامها، وهو انتقام سيكون هائلاً حقاً، وفظيعاً حقاً، وشاملاً حقا.
*كاتب وصحفي لبناني