القيم والضمانات والحواضن المدنية
الدولة المدنية كما هي دولة غير معسكرة وغير ثيوقراطية وهي ايضاً الدولة غير المؤدلجة بالآيديولوجيات العقائدية الشمولية،… لكن، وبالعمق هناك عدة من الإشتراطات لا بد من توافرها لضمان انتاج الدولة المدنية، هي:
1 – تكامل القيم المدنية التي تنتجها المدينة (منظومة الفضائل المدنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..) المستلة من روح المدينة على حساب روح البداوة أو القرية في انتاجها للمجتمع،.. ولم تتشكل – عراقياً – بعد أية روح مدنية أو حتى مدينية، فلقد قضي على المدينة كنسق جدلي وسياق ابداعي منتج للتطور التاريخي، وأيضاً قضي على المدنية بفعل غياب قيمها وضماناتها وحواضنها.
2 – سيادة الضمانات المدنية التي تنتجها الدولة، وتتمثل بالحقوق المدنية، والحقوق السياسية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. إنّ اشتراط سيادة الضمانات المدنية مرهون باعتماد المواطنة الديمقراطية في أصل نشوء وبقاء الدولة، ولا يمكن الحديث عن حقوق سياسية ومدنية واقتصادية وثقافية دون اشتراطات حماية قانونية توفرها الدولة، والدولة المدنية هي النمط الوحيد بين انماط الدول القادرة على ضمان سيادة منظومة الحقوق المدنية، من هنا كانت الضمانات المدنية مقترنة دوماً بنجاح مشروع الدولة المدنية، وعمر العراق الحديث لم يشهد قيام تجربة الدولة المدنية.
3 – توافر الحاضن المدني كنسق ومؤسسات، والحاضن للثقافة المدنية هنا هو المجتمع المدني، ولم يتشكل بعد مجتمعنا المدني. إنّ نسق مدنية المجتمع يرتبط بثلاثة عوامل: الرابطة والوعي والأداء، فنسقية المجتمع المدني تنتظم على أساس من المواطنة القانونية والثقافية الكاملة، وعلى أساس من المواطنية الفاعلة في العلاقات النسقية (عمودية وأفقية) بين الأفراد والمجتمع والدولة، وعلى أساس من الأداء (الفردي والجماعي) الطوعي والمسؤول المستند الى القانون والسلم. وأيضاً يفتقد المجتمع المدني تكامل وفاعلية نسق المؤسسات كوسيط حقيقي بين المواطن والدولة. لذا لا نجد فاعلية حقيقية للحاضن المدني كنسق ومؤسسات في مجتمعنا بعد على مستوى الظاهرة.
التلمس والتحفظ
هل بدأنا نتلمس بعض آثار التشكل لنواة مدنية عراقية؟ يمكن قبول هذا القول بتحفظ شديد. القبول يستند الى معطيات، منها: زوال النظام السياسي الشمولي، ونمو الثقافة وانفتاحاتها المتنوعة، وتطور الفاعليات الإعلامية، وادخال ودخول المجتمع في جدليات فكرية وشارعية كبرى على مستوى الموروث والذاكرة والتابوات والشموليات والتشريع والعقل والحريات والحقوق والإبداع. هناك حركية تفعل فعلها في اللاوعي العراقي، وقد تكون جزءا من صيرورة لثقافة مدنية تشكل بداية لتبلور نواة مدنية صلبة لروح الأمة،.. وقد لا تتشكل، إذا ما لم يتوفر لها ثلاثي (القيم المدنية والضمانات المدنية والحاضن المدني)، وهذا هو مبعث التحفظ الشديد، والخوف الشديد الذي أحمله، فلا يمكن اكتساب (القيم والضمانات والحواضن) المدنية دون كسب مشروع بناء الدولة، فجميع البناءات والأنساق تقوم وتتقوم على أساس من مشروع الدولة وطبيعتها الفلسفية والوظيفية. وهذا جوهر المعركة الكونية الدائرة في العراق حاليا. المفترض، أنّ الهدف النهائي للعملية السياسية الحالية هو انتاج الدولة، فالعملية السياسية (خارطة طريق) لانتاج هذه الدولة،.. وبصراحة، لا أجد العملية السياسية الحالية قادرة على انتاج هذه الدولة، وبالذات نمطها المدني، والمصدات هنا ذاتية وموضوعية لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها بسهولة، فعلى سبيل المثال: هل يمكن التأسيس لدولة مدنية في ظل (هجانة) طبيعة مشروع الدولة الفلسفي المتصل بماهيتها وهويتها؟ هل يمكن لديمقراطية الأعراق والطوائف المعتمدة كأساس لإنتاج الدولة توفير بنى دولة واضحة النسق على مستوى التشريع والقرار والمؤسسة، وهي التي تقوم وتتقوم على وفق مبادئ انقسام السلطة والمحاصصة والتوافق المستبطن لحق النقض العرقي والطائفي؟ وكيف يمكن للديمقراطية التوافقية أن تشتغل وسط انهدام شبه كلي عانت وتعاني منه جميع بناءات وانساق المجتمع والدولة العراقية؟، ثم كيف يمكن تجاوز الكوابح الذاتية للأصل النظري للديمقراطية التوافقية وهي التي تستعيض عن المواطنة بالمكوّن العرقي والطائفي والإثني، وتتجاوز استحقاق الديمقراطية في صناعة القرار لحساب مطبخ التوافق، وتصيب أمة الدولة بمقتل جراء اعطائها الإعتراف والحماية لمبدأ المكون على حساب مبدأ المواطنة؟، وأيضاً، هل يمكن التأسيس لثقافة مدنية مع احياء وتبني ثقافة الهويات الفرعية وتصدرها كفاعل في الحياة السياسية والاجتماعية؟ وعن أية صيرورة للدولة (ومن ثم الثقافة والمدنية) نتكلم ولم تحسم بعد مراهنات الرؤى والإرادات الكبرى المتصلة بطبيعة الدولة وشكلها ومنظوماتها ومشروعها الإنساني؟ وكيف لنا معالجة انحلال المدينة وغياب قيم المدنية مع غياب مشروع الدولة القيمي والاقتصادي والثقافي؟. هذه أسئلة وغيرها أكثر يتصل بالفساد وانحلال الدولة بسبب ابتلاع قوى المجتمع لمركزيات الدولة القانونية المؤسسية،.. أسئلة تتوقف أجوبتها على نمطية الحسم للصراع الدائر اليوم لكسب معركة الدولة.
المطلوب
لتحقيق النواة المدنية الصلبة التي ترتكز عليها كافة البناءات الفوقية من مجتمع ودولة وسلطات وفاعليات.. لا بد من توافر أربعة شروط تتماهى في لحظة تاريخية مناسبة لتنهض بمشروع الدولة المدنية، وهي:
1 – الكتلة التاريخية، وأعني بها، جماعة التأسيس التي توحد رؤاها واراداتها لتبني مشروع الدولة المدنية الديمقراطية. ان الكتلة التاريخية الصانعة للتحول هي مجموعة النخب التأسيسية المدنية الديمقراطية التي تتنوع سياسياً وثقافياً واعلامياً واقتصادياً.
2 – الحامل السياسي لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية، واعني به التحالف العريض والواسع لقوى التيار الوطني المدني الديمقراطي الذي يأخذ على عاتقه حمل المشروع والدفاع عنه وجعله خياراً للأمة والدولة.
3 – البناء الدستوري والقانوني القائم على وفق الأسس الديمقراطية المدنية، والذي يحسم نوع وهوية المشروع الإنساني والسياسي المدني الديمقراطي.
4 – البرامج والسياسات المجسدة للمشروع المدني في كافة حقول المجتمع والدولة.
الكتلة التاريخية المدنية
أشدد على مصيرية مشروع الدولة على يد الكتلة التاريخية العراقية المؤمّل انبثاقها، فإنّ مشروع الدولة العراقية الوطنية المدنية رهن انبثاق الكتلة التاريخية السياسية المدنية العراقية المتحررة من الولاءات الخاصة والطموحات الضيقة، الكتلة التاريخية القادرة على توحيد رؤيتها للدولة وفلسفتها وهويتها ومشروعها، والمنبعثة لإعادة انتاج الذاكرة التاريخية (الدينية والمذهبية والقومية والسياسية) بشكل توظيفي بناء، والمؤهلة وعياً وأداءً لتجاوز التناقضات والنشوزات الراهنة التي خلفتها عهود الاستبداد وتداعيات الفوضى والانقسام، والقادرة على توظيف اللحظة التاريخية المناسبة لتبني مرتسمات نوعية للتنمية والتطور، وهي بعد الكتلة الواعية الرائدة القوية التي تحمل الدولة وأمتها على مشروعها بوعي واصرار وجلادة.
لم تتبلور بعد الكتلة التاريخية العراقية، وما لم تتوافر عناصر النهوض للكتلة التاريخية العراقية فلن يتم انجاز مشروع الدولة المدنية الديمقراطية وستبقى الدولة رهن الفوضى والاستلاب. إن تشكيل الكتلة التاريخية القائدة الرائدة رهن توحد قوى ونخب الطيف المدني العراقي وبرمزية عالية التركيز يمثلها رمز الدولة الوطني المدني، ورهن الدخول المكشوف بالصراع لكسب مشروع الدولة، الدخول الواعي الجريء والصادم والحازم مهما بلغت التكلفة، فما ندفعه من تكاليف حالياً لا يمكن مقارنته بتكلفة حسم المشروع، وهذا درس علّمنا إياه التاريخ.