عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي
عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي

فرنسا لا تزال تحت تخدير ديكارت بقلم: نوزاد حسن

المقالات 29 سبتمبر 2015 0 145
فرنسا لا تزال تحت تخدير ديكارت بقلم: نوزاد حسن
+ = -

 ربما يشعر العقل بسعادة كبيرة في حالة الشك اكثر من سعادته في حالة اليقين.لكن اي عقل يفضل الشك على اليقين..؟بكلمة واحدة وواضحة اقول هو العقل الفرنسي. نعم الفرنسيون يشعرون بنشوة كبيرة تشبه المتعة التي يحصل عليها مدمن اذا مارسوا وظيفتهم في جعل اليقين يبدو هشا كالقطن. ان الشك الفرنسي حراق كالبهارات الهندية لكن فرنسا اعتادت عليه,وصار جزءا من حياتها. ربما نشعر نحن بقسوة الشك الفرنسي ونبدي اعتراضنا عليه كما نعترض على الطعام الهندي لشدة لسعه في افواهنا الا ان الفرنسيين
لا يحسون بما نحس به.
هم يتمتعون حين يطرحون تساؤلات شديدة الغرابة لجعل الحقيقة تبدو في صورة اخرى. ولا يهمهم شيء على الاطلاق الا المتعة الحسية التي يحصلون عليها من عملية الشك التي يمارسونها كالتنفس تماما.
قبل قرون علم جد فرنسي عظيم اسمه ديكارت احفاده كيف يطرحون الاسئلة, وكيف يخترعونها من اجل زيادة جرعة الشك. تخيلوا رجلا عاش بلا حقيقة لمدة ايام او اشهر. الغرفة التي عاش فيها كانت وهما وجسده كان ايضا من الوهم, والنوم, وكل معارفه. باختصار: كان كل شيء غير حقيقي. ومن الطريف ان ذلك الجد الفرنسي العظيم اكتشف في دوامته الشخصية وضياعه, ان هناك شيئا واحدا يمكن ان يثق به ويصدقه. ذلك الشيءهو: الشك نفسه. ديكارت الجد العظيم عرف انه لا يمكن لاحد ان يشك بانه يشك. اذن وجد ديكارت حقيقة واضحة جدا وهي انه لا يمكن ان يكذب عملية الشك نفسها. وهكذا وجد انه يفكر بالشك فهو موجود. وهنا امسك اول حقيقة نقية ثابتة.
لقصة ديكارت تشويق لا مجال للحديث عنه الان. كل ما يهمني في هذه اللحظة هو ان اخرج نفسي من دائرة الخداع التي قذفتني اليها جريدة اللوموند. والقصة طريفة اذ ان هذه الجريدة المهمة نشرت تقريرا عن حادثة الطفل السوري الغريق. وحاولت الجريدة ان تعيد ترتيب الحدث كما وقع. وتوصلت الى ان صورة الطفل الغريق وطريقة نومه على الشاطئ كما لو انه نائم ليست حقيقية. فقد تمت فبركة الصورة لان الطفل وجد ملقى بين صخرتين.هذه الصورة رقم واحد بحسب الجريدة. ثم تأتي اللقطة الثانية حيث حمل الجندي الطفل الى الشاطئ. الصورة الثالثة سير الجندي بالطفل الى مكانه النهائي. والصورة الرابعة وضعه بالشكل الذي رأيناه وتعاطفنا معه. لكن جريدة اللوموند لم تكتف وتتوقف عند هذا الحد الذي اوضحت فيه فبركة الصورة, وانما تطرقت الى الحديث عن والد الطفل الغريق متهمة إياه بأنه كان يعمل مع المهربين. لدينا اذن موجة شك هادرة تتعلق الاولى بصورة الطفل التي هزت ضمير العالم, والثانية بأبيه الذي ذكرت الجريدة انه كان يعمل مهربا. الى هذا الحد انجزت الجريدة الفرنسية مهمتها على اكمل وجه. فقد اقنعت القارئ انها تتمتع بحس جنائي عال لا يمكن لاحد ان يناقشه او يناضل لتوجيه نقد اليه. وربما وجد البعض في طرح الجريدة الفرنسية حلاوة واثارة تكفيان لتصديق القصة التي رويت على ذمة تلك اللوموند الشهيرة.
في الحقيقة أضحكتني الرواية الفرنسية لأنها ذكية جدا في خلق جو مثير نحن بحاجة اليه لاسيما نحن نشاهد طفلا غريقا على شاطئ وكأنه نائم. ان رسالة ذلك التقرير تتعدى قصة البحث عن الحقيقة لتصل الى تدريبنا وتعليمنا اسلوبا جديدا في التعامل مع اية صورة او حادث مريع. ويتلخص هذا الاسلوب بكلمة واحدة لا غير: افحص اية صورة بمنظار الشك. توقف عنده, ولا تتعاطف معه فهناك وقت اخر للانفعال. الان دقق النظر جيدا لتكتشف وراء الصورة حقيقة اخرى.
بالنسبة لي كان ذلك التقرير المثير خلاصة مركزة لجد فرنسا الاكبر ديكارت الذي
ما زال يفرض سيطرته على الفرنسيين جميعا. الشك بمعناه الفرنسي منهج فلسفي تحول الى طبيعة من لحم ودم, ووجهة نظر. ان اقوى الحقائق لا تصمد امام الاسئلة التي تطرح لتقلب تماسك اية حقيقة, واظهارها على انها ليست الا وهما يريد خداعنا.
لذا علينا ان نكون حذرين وممسكين لاعصابنا الى حد التجمد كي لا ننجر لخدعة ماكرة تجعلنا نبدو مخدوعين وفاقدين لقوة الوعي.
حين قرأت التقرير شعرت بحضور قوة خفية تتلاعب بكل شيء بلا استثناء. حين كان ديكارت يعاني من غابة شكه الفظيعة افترض وجود شيطان يريد ان يبعده عن جادة الصواب والراحة. لقد اصر ديكارت على افتراض وجود مثل ذلك الشيطان. في ذلك التقرير يوجد شيء مشابه او صورة من ذلك الشيطان الذي اختفى في مكان ما وخدعنا وجاءت اللوموند كاشفة لنا عن وهم صورة الطفل «ايلان». واذا كان التقرير من صناعة صحيفة فرنسية فهذا يعني ان الشك هو حرفة شعبية بكل معنى الكلمة. وان الوشنطن بوست او نيويورك تايمز او دير شبيغل لا يمكن ان تسبق اللوموند في كتابة تحليل واقعي بهذا الشكل ابدا.
لقد طوق الشك بأذرعه الاخطبوطية المتعددة جسد الطفل النائم, واعادته الى مكانه الذي وجد فيه. فهناك حقيقة زورها الشيطان الذي خدعنا الى درجة اننا تألمنا وذرفنا الدموع عند مشاهدتنا للحادث. وبعد ما قاله التقرير لنا عرفنا اننا بكينا من اجل وهم مصنوع من اجل الاثارة. لاحظوا درس اللوموند القاسي الذي وصلنا دون ان تنقص ذرة واحدة من سخريته. ان كنا شعرنا بالانفعال عند رؤيتنا للطفل وهو ميت فهذا يعني اننا سلمنا قلوبنا لشيء تفوح منه رائحة ايد بشرية خططت لتبيعنا صورة مزيفة. لكن اللوموند لم تقع فريسة للوهم الذي ابتلعنا لانها اكثر منا تجربة وتمرسا بفلسفة ديكارت الذي لا يستطيع الفرنسيون تجاهله, او تناسيه.

 

شاركنا الخبر
احدث الاضافات
آخر الأخبار