من العراق الى اليمن، ومن سوريا الى ليبيا، ومن..الى… هل تكون صناعة جغرافيا سياسية جديدة لدول المنطقة هي الحل للتضاد العرقي والإحتراب الطائفي واحتدام حرب الأديان والمذاهب المأسورة للذاكرة والإثنية والعشيرة والمنطقة؟ وهل أن الولادات الأميبية للدويلات هي حل لأزمات الدول الفاشلة الفاقدة للوحدة الوطنية والغارقة في صراع الهويات السياسية العرقطائفية؟ وهل التقسيم المبطن أو الناجز هو الحل الأوحد لتضاد القوميات والطوائف والقبائل التي أجهضت مشروع الدولة؟ وهل هذا ما سيلبي طموح القوى الفئوية العرقطائفية ونخب الملل الغارقة في الذاكرة التاريخية والمتقوقعة في شرانق قومياتها ومذاهبها والداخلة في حروب ضروس سعياً وراء السلطة بأي ثمن؟
مؤامرة
يحاجج البعض بأنَّ مخططات تقسيم الدول إنما هي مؤامرات أميركية غربية اقليمية بامتياز، وأنَّ رؤية مراكز القرار الدولي تتمحور حول إعادة إنتاج جديدة للجغرافيا السياسية لأكثر من دولة وبالذات في العالمين العربي والإسلامي حماية للمصالح الستراتيجية للدول الكبرى،.. سيكون هناك أكثر من سايكس بيكو سيغير وجه المنطقة ويحدث انقلاباً في ثوابتها الراسخة لعقود خلت.
هل هذا يكفي؟
بصراحة، هل يكفي القول بوجود مؤامرات أميركية غربية لتفسير جميع هذه التداعيات والانقسامات والتشرذم الحاصل والذي سيحصل لشعوب ودول المنطقة؟ ما أسهل منطق المؤامرة وما أريحه للعقول والإرادات!! يكفي أن تقول بوجود مؤامرة لتريح وتستريح وتبرر وتستلم!! أقول: المؤامرات موجودة وستبقى، إنها جزء من حرب المصالح التي لا تتخلى عنها دولة صغيرة كانت أم كبيرة، هي حرب تتجدد وتتموضع وتتجلى حسب متغيرات التاريخ إن لم تكن هي الصانعة للتاريخ. بالمناسبة، ليست هناك فئة أو أمة أو دولة لا تمارس الدفاع عن مصالحها وتتحرى مختلف الوسائل لتحقيقها بما في ذلك التآمر، بمعنى ليست هنالك من جهة لا تدخل حرباً مصلحية على تعدد مصاديق المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية،.. أصلاً التاريخ هو سجل حروب لمصالح متضادة لأفراد وجماعات وأمم ودول.
المؤامرات موجودة وستبقى، إنه تنافس كوني وراء مصادر الثروة ومناطق النفوذ لتحقيق المصالح، ومنطقتنا هي مركز تقاطع كوني للثروة والجغرافيا، لذا هي مورد اهتمام استثنائي للعالم، لا ولن تترك.
المؤامرات موجودة وستبقى، ولكن، هل يعفينا هذا من تحمل مسؤولية انهيار أممنا ودولنا؟، وما هو دورنا المعلن والمبطن في تحقيق مصالح الآخرين على حساب مصالح أممنا ودولنا؟ ما هي الأسس والمعايير والسياسات التي تم اعتمادها في بناء مجتمعاتنا ودولنا والتي كانت وما زالت حاضناً للتشرذم المستدعي لتمرير المؤامرات؟.
من نحن؟
بمرارة، نحن – بالأعم الأغلب والى هذه اللحظة التاريخية – مجتمع المجتمعيات الضيقة المتحيزة المنكفئة والرافضة للآخر الوطني، مجتمع العصبيات المذهبية والقومية والقبلية والمناطقية الغارقة في هوياتها الخاصة على حساب الهوية الإنسانية والهوية الوطنية الكلية،.. فشلنا بإنتاج دول المواطنة فأنتجنا دول القوميات والمذاهب المحتكرة للسلطة والقامعة للآخر الوطني المختلف عرقاً أو طائفة أو مذهباً سياسيا،.. وفشلنا بخلق المشترك الوطني فتضخمت لدينا الهويات السياسية الفرعية التي تسعى إما لابتلاع الدولة أو للانفصال عن الشريك الوطني الآخر،.. فشلنا في التعايش المستند الى قبول الآخر المختلف، فشلنا إنسانياً في تحري المشترك الإنساني المحقق لخصوصية ومصالح كل فئة فساد الصراع والاحتراب.
نحن – الى هذه اللحظة – مجتمع تسوقه الذاكرة التاريخية كعصبيات تنتج عصبويات عضوية تنفي الآخر، تكفره، تخونه، لتؤسس بالتبع للاستعباد والاستبعاد للآخر شريك الأرض والمصلحة والمستقبل.
إنموذج الدولة الذي أنتجناه طيلة العقود المنصرمة فشل، فشل كقيم واشتراطات وحواضن وسياسات، لقد أنتجنا دولة الاستبداد المحتكرة قومياً مذهبياً حزبياً نخبويا،.. أنتجنا دولة العرق والمذهب والقرية والرمز الضرورة ولم ننتج دولة الجمهور والمدنية والمؤسسة،.. لقد أنتجنا مسمى دول، كيانات سلطة تحتال على مفهوم الدولة وفلسفتها ووظائفها، مسمى دول خالية من ضمانات المواطنة والديمقراطية الحاضنة للحقوق والحريات المدنية السياسية الاقتصادية الثقافية.
لأننا لم ننتج مجتمعاً سياسياً فقد فشلنا بانتاج دولة الجمهور، وبفشل دولة الجمهور الوطني بقينا مجمع مجتمعيات إثنية عرقية طائفية مناطقية لا ترى غير هوياتها الذاتية ولا تدافع إلاّ عن مصالحها الخاصة،.. وبالنتيجة تم تغليب الجماعة على المجتمع والسلطة على الدولة والمكوّن على السلطة والحزب على المكوّن والرمز على الحزب..الخ فتعددت الهويات والسلطات والمصالح لتفترس المجتمع الوطني ولتبتلع الدولة والهوية الوطنية. المجتمعات الفاقدة للوحدة الذاتية المتأتية من التعايش والتسامح وقبول الآخر، والدول الفاشلة القائمة على أساس من أفكار التعنصر والاستبداد والاحتكار والفساد والإرهاب،.. هكذا مجتمعات ودول إنما تحمل جرثومة الفناء في أحشائها سواء كانت هناك مؤامرات أو لم تكن.
هل التقسيم حل؟
يرى بعض أن التقسيم الناجز أو الصامت جارٍ تحقيقه لأكثر من دولة تعاني التصدع الداخلي، وأن توزيع السلطة والثروة لتلبية الطموح السيادي للقوميات والطوائف والإثنيات هو الحل، وأن التعايش السلمي لمكونات الدول المنقسمة على نفسها عرقياً وطائفياً وقبائلياً ومناطقياً مستحيل دون تسلح مكوناتها (الطائفية العرقية) بمقومات الدولة/ السلطة كاستقلال ناجز أو مبطن. إنه إعادة إنتاج الجغرافيا السياسية الداخلية للدول على أساس من فكرة المكونات السيادية التي تمتلك كافة مقومات الدولة لكن ضمن الدولة لحين توافر امكانيات اعلان الدول الجديدة، وهو خيار الإصرار عليه لا يعني سوى إعادة لإنتاج الحروب والإنهدامات الداخلية للدول بصيغ جديدة عقيمة لا ترسم مساراً لحل مأزق الدولة الفاشلة بسبب التداخل المجتمعي والاشتراك بالموارد الطبيعية وتعقيد الجغرافيا السياسية التي هي عوامل ستفشل هكذا خيار.
لا مفر – اليوم أو غدا – من اتفاق أمة ونخب هذه الدولة أو تلك على إعادة إنتاج دولهم على وفق تسويات تاريخية تنتج عقداً وطنياً جديداً يكفل البناءات السليمة للدولة بما يضمن العدل والمساواة والتكافؤ والتنمية والسلم الأهلي، وإلاّ فإن الإنهدامات والكوارث وشيوع الفوضى وديمومة الحروب هي السائدة.