أولا: عندما تدخل البلاد في ازمات مدفوعاتها فإن اصابع الشك تذهب الى ان هناك ثمة عجز مالي مستمر (العجز الداخلي) او هناك عجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات (العجز الخارجي).
ويعد تصحيح تلك الاختلالات الهدف الرئيس للسياسة الاقتصادية في النمو والتوازن والاستقرار. وعلى الرغم من ذلك يبقى الاختلال الادخاري هو الاساس والعامل الاكثر صعوبة في معادلة السياسة الاقتصادية وقدرتها في توفير حلول سهلة وسريعة لمواجهة العجز الادخاري المزدوج آنفاً. ولما كان الادخار هو بمثابة تدفق يمثل فائض الدخل بعد استبعاد الاستهلاك خلال مدة معينة، فإن الادخار يصبح خزيناً بنفسه ايضاً ويشار اليه بكمية الاصول او الموجودات المحتفظ بها. لذا فإن خزين الادخار هو عبارة عن تراكم من تدفقات الادخار لمُدد سابقة. فالاقتصادات التي تعاني من مستويات منخفضة في الادخار الوطني بصورة هيكلية ستصبح لامحالة مُعتمدة على التدفقات الداخلة من راس المال الخارجي بغية تعزيز مستويات الاستثمار والنمو في الناتج المحلي الاجمالي.
ثانيا: ازاء ما تقدم، فقد تعرض العراق منذ منتصف العام 2014 وحتى اللحظة الى هزة عنيفة في الحساب الجاري لميزان مدفوعاته جراء تدهور أسعار صادرات البلاد النفطية وانخفاض حصيلة ايراداته النفطية الى اكثر من 55% مقارنة بسنوات ازدهار الريع النفطي ولاسيما العام 2013 إذ يقدر العجز الراهن في الحساب الجاري لميزان المدفوعات العراقي في العام 2015 نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي بنحو يزيد على (سالب 8%). ويلاحظ ان الفجوة الداخلية بين الادخار المرغوب والاستثمار المرغوب نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي مازالت تزيد هي الأخرى على (سالب 8%) مؤشرةً عجزاً ادخارياً داخلياً يماثل فجوة العجز الادخاري الخارجي، وهو ما يؤكد شدة احادية الاقتصاد وتمحور النشاط الاقتصادي الاجمالي حول عوائد الصادرات من النفط الخام. ففي الوقت الذي تقلص فيه الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي الى(سالب 2.3%) في سنة الهزة الاقتصادية 2014 ،فإن النمو الحقيقي في ذلك الناتج المحلي الاجمالي بات لا يتعدى ( نصف الواحد من المئة )في العام الجاري 2015. وازاء التطلع الى الاقتراض الخارجي ومختلف التدفقات الخارجية ومخاطر انتظار تحققها في سد العجز المزدوج الداخلي والخارجي، فإن الاقتصاد سيصبح تدريجياً كياناً معتمداً على التدفقات الخارجية ولكن بثمن باهض قد يفقدنا استقلالية القرار الاقتصادي.
كما ان هبوط مستوى الادخار الداخلي لا يقوّي الا القدرة الاستهلاكية بمرور الوقت. وان تدفقات العملة الاجنبية الى الداخل لا تقوّي هي الاخرى سوى الطلب الداخلي الكلي لسد احتياجات الاستهلاك ومن ثم تقود إلى تآكل فرص الادخار وتدهوره اكثر فاكثر. فاحتياطيات البنك المركزي العراقي التي تعد شكلاُ من اشكال الادخار السيادي المؤازر للاستقرارين الداخلي والخارجي لم ترتفع هي الاخرى، على الرغم من التدفقات الداخلة من العملة الاجنبية من ايرادات النفط الخام خلال العامين المنصرمين، بل تعرضت الى الهبوط النسبي بسبب تعاظم النزعة الاستهلاكية الاستيرادية للبلاد. وهو ذات الوضع الذي تعرضت اليه بلدان اُخرى كالبرازيل وتركيا خلال العقد الماضي.
ولا يخفى ان العجز الادخاري وحالة اللاتوازن الكلية (للقطاعين الخاص والحكومي) قد ولدت ما يسمى بالعجز الثنائي، اي عجزاً في الحساب الجاري لميزان المدفوعات، بسبب تفوق التدفقات النقدية الخارجة على التدفقات النقدية الداخلة (وهو العجز الخارجي) مقابل (عجز داخلي) يتمثل في تدني الادخار المرغوب وضعف قدرته على تلبية الانفاق الاستثماري المرغوب جراء تفوق الانفاق الاستهلاكي وهو ما يحدث في بلادنا اليوم.
وبهذا سجلت نسبة الديون السيادية المتراكمة سواء الديون المحلية منها او الخارجية تزايداً نسبياً وبما لا يقلّ عن 59% من الناتج المحلي الاجمالي مرتفعة من 39% خلال السنتين الماليتين المنصرمتين. ومازالت البلاد تبحث عن فرص اضافية للاقتراض المحلي والخارجي مما يؤشر على احتمالية ارتفاع اجمالي الدين السيادي الى الناتج المحلي الاجمالي الى قرابة 70% والذي قد يتدفق تمويله من الاسواق الخارجية او المصادر الاجنبية بسبب تدني قدرات سوق راس المال المحلية ومحدودية رافعتها في تمويل العجز المالي السيادي. فالموازنة العامة الاتحادية للعام 2016، على سبيل المثال، والتي يشكل الانفاق الكلي فيها نسبة 50% من الناتج المحلي الاجمالي حسبما جاء في مشروعها، لم تَخْلُ هي الأخرى من العجز المقدر بنحو 22% من سقف الانفاق الكلي فيها (البالغ 106 تريليون دينار) وهو يزيد على 11% من الناتج المحلي الاجمالي للعراق. وفي الوقت الذي خُصصت فيه عوائد النفط وبعض الإيرادات السيادية المهمة الأخرى في الموازنة إلى فقرة النفقات التشغيلية (الاستهلاكية)، نجد ان نفقات الموازنة الاستثمارية باتت مقيدة بمقدرة المالية العامة على توفير فرص الاستدانة وتمويل العجز سواء بالقروض الداخلية المتاحة في سوق راس المال المحلية (الضعيفة في رافعتها المالية) أو اللجوء الى اسواق راس المال الخارجية (بروافع عالية الكلفة). فالبلاد تواجه ضائقة مالية ومحنة تمويلية تحت تأثير كوابح فجوة العجز الثنائي او المزدوج. آخذين بالاعتبار مصاعب الانفاق، في حين مازال العراق يخوض غمار حرب محلية شرسة ضد مصادر الارهاب الخارجي الذي يحتل عدداً من البلدات والمدن. من جانب آخر، قد يتعرض تمويل عجز الموازنة وتحت تأثير الظروف المالية الاستثنائية الى تعاظم الانفاق التشغيلي وتقوية الطلب الاستهلاكي المحلي مما يقلص فرص الادخار ويقوي الاختلالات الادخارية متلاحماً مع اقتراضات القطاع الخاص الداخلية او الخارجية وهو ما يؤدي الى تقوية الاستيرادات ذات النزعة الاستهلاكية العالية، ويعمق ثانية بآثاره الارتجاعية العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات. فمعدلات الادخار البطيئة لابد من ان تلتحم مع مستويات دخل منخفضة ودرجات هابطة من الانتاجية وبشكل خاص النشاطات الاقتصادية الصغيرة المولدة للدخل والتي تتسع شبكة نشاطاتها افقياً. فما لم تحصل تلك النشاطات الصغيرة الممتدة افقياً على ائتمانات او قروض نقدية كافية فإنها ستزيد من درجة تفاقم التدهور في انتاجيتها وقدراتها التشغيلية، بكونها نشاطات اقتصادية خاصة موفرة لفرص عمل لأكثر من 4 ملايين انسان عراقي في القطاع الخاص، مسببةً في الوقت نفسه تدنياً في مستويات الدخل جراء تدهور الانتاجية وتآكلا أسرع في فرص الادخار. كما يقابل ذلك تراجعاً في قدرات الجهاز المصرفي في منح الائتمان النقدي الذي مازال لا يغطي سوى 11% من احتياجات الجمهور الطالب للائتمان. ولم يرتق الائتمان النقدي الا في بلوغ نسبة منخفضة لا تمثل سوى 5% من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد وهي الاقل عالمياً. وان مثل هذا الشلل الاقتصادي هو الذي قاد البنك المركزي العراقي الى تدارك مشكلات الفجوة المزدوجة والاختلالات الادخارية عندما اطلق برنامجاً ائتمانياً واسعاً بمبلغ 6 تريليونات دينار لتنمية القدرات الادخارية لقوى السوق المُنتج ذلك ابتداءً من التمويل الاصغر وانتهاءً بالمشاريع الكبيرة.
ثالثا: بعيداً عن الجدل المدرسي الدائر حول التركيب الديمغرافي أو السكاني وتلازمه مع قضية الادخار إلا أن ملتون فريدمان، زعيم مدرسة شيكاغو النقودية، هو أول من ادرك هذه المعضلة عند تعرضه إلى نظرية الدخل الدائم، حيث وجد أن تعاظم الانفاق الاستهلاكي وتدني فرص الادخار وتعاظم الاقتراض النقدي هي ظاهرة مركبة ديمغرافية وحضرية في آن واحد. أي انها ظاهرة تخص المجتمعات التي تتمتع بالهبّة الديمغرافية (وتتمثل بارتفاع نسبة اليافعين او الشباب في تركيب قوة العمل في الحواضر او المدن). وبسبب كونهم قوة عمل تتمتع بعمر مهني اطول في توليد الدخل تجدها اقل ادخاراً واكثر انفاقاً صوب السلع والخدمات الاستهلاكية. وهي على خلاف سكان الارياف حيث الميل الى الادخار لدى قوة العمل الشبابية هي اكبر نسبياً بسبب حالة اللايقين جراء ضيق المجتمع المحلي والتقلص التاريخي للسكن الريفي. وبالرغم من ذلك يرى فريدمان ان اقتراب قوة العمل الى منتصف اعمارها المهنية ، ستسلك سلوكاً قوياً نحو الادخار للتحضير الى مرحلة التقاعد والتفكير الجدي بمحدودية الدخل او توليد دخل إضافي.
اما الاقتصاد العراقي الذي يتقدم نحو ما يسمى بالهبة الديموغرافية ويقدّر ان تبلغ نسبة الشباب دون سن 30 سنة في تركيب قوة العمل (خلال العقد القادم) بنحو يزيد على 60% من تلك القوى العاملة، فإن فضيلة الادخار ستجد انحداراً وتأخذ بالتراجع على المستوى الفردي ولا مناص من ان تزايد أعداد سكان المدن في إطار الهبّة الديموغرافية للعراق خلال العقد القادم ستكون قوة استهلاكية صافية ومُقترضة عموماً وذات ميول ادخارية ضعيفة، ازاء تدني اعداد سكان الريف كقوى معروفة بميولها الادخارية. لذا لا نتوقع تعاظم الادخار كسلوك مجتمعي في قابل الايام، ما يقتضي الانتباه الى خطر تنامي ظاهرة اللاتوازن الادخاري في بلادنا الريعية النفطية الشديدة الميل نحو ارتفاع الانفاق الاستهلاكي فيها وضعيفة في ميولها الادخارية المؤازرة.
رابعا: فاذا كانت مصادر الادخار الكلي هي من عوائد النفط الخام المُصدر، التي ينبغي لها ان تكرس للاستثمار الحقيقي المُنتج وتنويع الاقتصاد المحلي كمصدر دخل اضافي مؤازر في غلق الفجوة الداخلية، او حتى في ايجاد صندوق ادخاري سيادي تُستثمر موارده من خلال التنويع المالي الخارجي (بسبب ضيق الطاقة الاستيعابية للموارد المالية الفائضة نحو الاستثمار الحقيقي الداخلي) إذ تؤازر عوائد الصندوق الادخاري المذكور عند الضرورة في غلق الفجوة الخارجية، فإنها مع ذلك كانت من الخيارات المتاحة أمام الاقتصاد الوطني طوال السنوات العشر الاخيرة. وبالرغم من الفوائض الكبيرة التي ولدها الحساب الجاري لميزان المدفوعات العراقي والموازنة العامة معاً خلال عقد مزدهر من الوفرة المالية الريعية الا انها لم تحقق شيئاً في بناء الاقتصاد وتنميته وجعله اقل احاديةً والذي يمكن تسميته (بعقد التنمية الضائع).
خامسا: ختاما، ليس من خيار أمام الدولة العراقية اليوم (الشعب والحكومة والبرلمان) الا طريق الاصلاح والعمل بروح الفريق الواحد في حماية الاقتصاد الوطني من الهدر والفساد وبناء اسس الدولة الاقتصادية الحديثة القائمة على تنمية السوق التنافسي الاجتماعي وتحقيق دولة الرفاهية المُوفرة لأسس الكفاية الانتاجية ومبادئ العدالة في توزيع الدخول والثروات.
(**) تؤكد النظرية الاقتصادية الكينزية، عبر منهجها المسمى: طريقة الادخار-الاستثمار في توازن ميزان المدفوعات، على ان العلاقة بين الادخار والاستثمار هي الاداة التي تفسر مركز الحساب الجاري في ذلك الميزان. فالاختلاف بين قيمة الاستيرادات وقيمة الصادرات من السلع والخدمات هي نظير الاختلاف بين الادخار المرغوب والاستثمار المرغوب. فتوازن الحساب الجاري لميزان المدفوعات الذي يؤدي الى تحسين الادخار هو ناجم بالضرورة عن الاستثمار المرغوب المناظر له والمعظم للدخل.
ويعد تصحيح تلك الاختلالات الهدف الرئيس للسياسة الاقتصادية في النمو والتوازن والاستقرار. وعلى الرغم من ذلك يبقى الاختلال الادخاري هو الاساس والعامل الاكثر صعوبة في معادلة السياسة الاقتصادية وقدرتها في توفير حلول سهلة وسريعة لمواجهة العجز الادخاري المزدوج آنفاً. ولما كان الادخار هو بمثابة تدفق يمثل فائض الدخل بعد استبعاد الاستهلاك خلال مدة معينة، فإن الادخار يصبح خزيناً بنفسه ايضاً ويشار اليه بكمية الاصول او الموجودات المحتفظ بها. لذا فإن خزين الادخار هو عبارة عن تراكم من تدفقات الادخار لمُدد سابقة. فالاقتصادات التي تعاني من مستويات منخفضة في الادخار الوطني بصورة هيكلية ستصبح لامحالة مُعتمدة على التدفقات الداخلة من راس المال الخارجي بغية تعزيز مستويات الاستثمار والنمو في الناتج المحلي الاجمالي.
ثانيا: ازاء ما تقدم، فقد تعرض العراق منذ منتصف العام 2014 وحتى اللحظة الى هزة عنيفة في الحساب الجاري لميزان مدفوعاته جراء تدهور أسعار صادرات البلاد النفطية وانخفاض حصيلة ايراداته النفطية الى اكثر من 55% مقارنة بسنوات ازدهار الريع النفطي ولاسيما العام 2013 إذ يقدر العجز الراهن في الحساب الجاري لميزان المدفوعات العراقي في العام 2015 نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي بنحو يزيد على (سالب 8%). ويلاحظ ان الفجوة الداخلية بين الادخار المرغوب والاستثمار المرغوب نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي مازالت تزيد هي الأخرى على (سالب 8%) مؤشرةً عجزاً ادخارياً داخلياً يماثل فجوة العجز الادخاري الخارجي، وهو ما يؤكد شدة احادية الاقتصاد وتمحور النشاط الاقتصادي الاجمالي حول عوائد الصادرات من النفط الخام. ففي الوقت الذي تقلص فيه الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي الى(سالب 2.3%) في سنة الهزة الاقتصادية 2014 ،فإن النمو الحقيقي في ذلك الناتج المحلي الاجمالي بات لا يتعدى ( نصف الواحد من المئة )في العام الجاري 2015. وازاء التطلع الى الاقتراض الخارجي ومختلف التدفقات الخارجية ومخاطر انتظار تحققها في سد العجز المزدوج الداخلي والخارجي، فإن الاقتصاد سيصبح تدريجياً كياناً معتمداً على التدفقات الخارجية ولكن بثمن باهض قد يفقدنا استقلالية القرار الاقتصادي.
كما ان هبوط مستوى الادخار الداخلي لا يقوّي الا القدرة الاستهلاكية بمرور الوقت. وان تدفقات العملة الاجنبية الى الداخل لا تقوّي هي الاخرى سوى الطلب الداخلي الكلي لسد احتياجات الاستهلاك ومن ثم تقود إلى تآكل فرص الادخار وتدهوره اكثر فاكثر. فاحتياطيات البنك المركزي العراقي التي تعد شكلاُ من اشكال الادخار السيادي المؤازر للاستقرارين الداخلي والخارجي لم ترتفع هي الاخرى، على الرغم من التدفقات الداخلة من العملة الاجنبية من ايرادات النفط الخام خلال العامين المنصرمين، بل تعرضت الى الهبوط النسبي بسبب تعاظم النزعة الاستهلاكية الاستيرادية للبلاد. وهو ذات الوضع الذي تعرضت اليه بلدان اُخرى كالبرازيل وتركيا خلال العقد الماضي.
ولا يخفى ان العجز الادخاري وحالة اللاتوازن الكلية (للقطاعين الخاص والحكومي) قد ولدت ما يسمى بالعجز الثنائي، اي عجزاً في الحساب الجاري لميزان المدفوعات، بسبب تفوق التدفقات النقدية الخارجة على التدفقات النقدية الداخلة (وهو العجز الخارجي) مقابل (عجز داخلي) يتمثل في تدني الادخار المرغوب وضعف قدرته على تلبية الانفاق الاستثماري المرغوب جراء تفوق الانفاق الاستهلاكي وهو ما يحدث في بلادنا اليوم.
وبهذا سجلت نسبة الديون السيادية المتراكمة سواء الديون المحلية منها او الخارجية تزايداً نسبياً وبما لا يقلّ عن 59% من الناتج المحلي الاجمالي مرتفعة من 39% خلال السنتين الماليتين المنصرمتين. ومازالت البلاد تبحث عن فرص اضافية للاقتراض المحلي والخارجي مما يؤشر على احتمالية ارتفاع اجمالي الدين السيادي الى الناتج المحلي الاجمالي الى قرابة 70% والذي قد يتدفق تمويله من الاسواق الخارجية او المصادر الاجنبية بسبب تدني قدرات سوق راس المال المحلية ومحدودية رافعتها في تمويل العجز المالي السيادي. فالموازنة العامة الاتحادية للعام 2016، على سبيل المثال، والتي يشكل الانفاق الكلي فيها نسبة 50% من الناتج المحلي الاجمالي حسبما جاء في مشروعها، لم تَخْلُ هي الأخرى من العجز المقدر بنحو 22% من سقف الانفاق الكلي فيها (البالغ 106 تريليون دينار) وهو يزيد على 11% من الناتج المحلي الاجمالي للعراق. وفي الوقت الذي خُصصت فيه عوائد النفط وبعض الإيرادات السيادية المهمة الأخرى في الموازنة إلى فقرة النفقات التشغيلية (الاستهلاكية)، نجد ان نفقات الموازنة الاستثمارية باتت مقيدة بمقدرة المالية العامة على توفير فرص الاستدانة وتمويل العجز سواء بالقروض الداخلية المتاحة في سوق راس المال المحلية (الضعيفة في رافعتها المالية) أو اللجوء الى اسواق راس المال الخارجية (بروافع عالية الكلفة). فالبلاد تواجه ضائقة مالية ومحنة تمويلية تحت تأثير كوابح فجوة العجز الثنائي او المزدوج. آخذين بالاعتبار مصاعب الانفاق، في حين مازال العراق يخوض غمار حرب محلية شرسة ضد مصادر الارهاب الخارجي الذي يحتل عدداً من البلدات والمدن. من جانب آخر، قد يتعرض تمويل عجز الموازنة وتحت تأثير الظروف المالية الاستثنائية الى تعاظم الانفاق التشغيلي وتقوية الطلب الاستهلاكي المحلي مما يقلص فرص الادخار ويقوي الاختلالات الادخارية متلاحماً مع اقتراضات القطاع الخاص الداخلية او الخارجية وهو ما يؤدي الى تقوية الاستيرادات ذات النزعة الاستهلاكية العالية، ويعمق ثانية بآثاره الارتجاعية العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات. فمعدلات الادخار البطيئة لابد من ان تلتحم مع مستويات دخل منخفضة ودرجات هابطة من الانتاجية وبشكل خاص النشاطات الاقتصادية الصغيرة المولدة للدخل والتي تتسع شبكة نشاطاتها افقياً. فما لم تحصل تلك النشاطات الصغيرة الممتدة افقياً على ائتمانات او قروض نقدية كافية فإنها ستزيد من درجة تفاقم التدهور في انتاجيتها وقدراتها التشغيلية، بكونها نشاطات اقتصادية خاصة موفرة لفرص عمل لأكثر من 4 ملايين انسان عراقي في القطاع الخاص، مسببةً في الوقت نفسه تدنياً في مستويات الدخل جراء تدهور الانتاجية وتآكلا أسرع في فرص الادخار. كما يقابل ذلك تراجعاً في قدرات الجهاز المصرفي في منح الائتمان النقدي الذي مازال لا يغطي سوى 11% من احتياجات الجمهور الطالب للائتمان. ولم يرتق الائتمان النقدي الا في بلوغ نسبة منخفضة لا تمثل سوى 5% من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد وهي الاقل عالمياً. وان مثل هذا الشلل الاقتصادي هو الذي قاد البنك المركزي العراقي الى تدارك مشكلات الفجوة المزدوجة والاختلالات الادخارية عندما اطلق برنامجاً ائتمانياً واسعاً بمبلغ 6 تريليونات دينار لتنمية القدرات الادخارية لقوى السوق المُنتج ذلك ابتداءً من التمويل الاصغر وانتهاءً بالمشاريع الكبيرة.
ثالثا: بعيداً عن الجدل المدرسي الدائر حول التركيب الديمغرافي أو السكاني وتلازمه مع قضية الادخار إلا أن ملتون فريدمان، زعيم مدرسة شيكاغو النقودية، هو أول من ادرك هذه المعضلة عند تعرضه إلى نظرية الدخل الدائم، حيث وجد أن تعاظم الانفاق الاستهلاكي وتدني فرص الادخار وتعاظم الاقتراض النقدي هي ظاهرة مركبة ديمغرافية وحضرية في آن واحد. أي انها ظاهرة تخص المجتمعات التي تتمتع بالهبّة الديمغرافية (وتتمثل بارتفاع نسبة اليافعين او الشباب في تركيب قوة العمل في الحواضر او المدن). وبسبب كونهم قوة عمل تتمتع بعمر مهني اطول في توليد الدخل تجدها اقل ادخاراً واكثر انفاقاً صوب السلع والخدمات الاستهلاكية. وهي على خلاف سكان الارياف حيث الميل الى الادخار لدى قوة العمل الشبابية هي اكبر نسبياً بسبب حالة اللايقين جراء ضيق المجتمع المحلي والتقلص التاريخي للسكن الريفي. وبالرغم من ذلك يرى فريدمان ان اقتراب قوة العمل الى منتصف اعمارها المهنية ، ستسلك سلوكاً قوياً نحو الادخار للتحضير الى مرحلة التقاعد والتفكير الجدي بمحدودية الدخل او توليد دخل إضافي.
اما الاقتصاد العراقي الذي يتقدم نحو ما يسمى بالهبة الديموغرافية ويقدّر ان تبلغ نسبة الشباب دون سن 30 سنة في تركيب قوة العمل (خلال العقد القادم) بنحو يزيد على 60% من تلك القوى العاملة، فإن فضيلة الادخار ستجد انحداراً وتأخذ بالتراجع على المستوى الفردي ولا مناص من ان تزايد أعداد سكان المدن في إطار الهبّة الديموغرافية للعراق خلال العقد القادم ستكون قوة استهلاكية صافية ومُقترضة عموماً وذات ميول ادخارية ضعيفة، ازاء تدني اعداد سكان الريف كقوى معروفة بميولها الادخارية. لذا لا نتوقع تعاظم الادخار كسلوك مجتمعي في قابل الايام، ما يقتضي الانتباه الى خطر تنامي ظاهرة اللاتوازن الادخاري في بلادنا الريعية النفطية الشديدة الميل نحو ارتفاع الانفاق الاستهلاكي فيها وضعيفة في ميولها الادخارية المؤازرة.
رابعا: فاذا كانت مصادر الادخار الكلي هي من عوائد النفط الخام المُصدر، التي ينبغي لها ان تكرس للاستثمار الحقيقي المُنتج وتنويع الاقتصاد المحلي كمصدر دخل اضافي مؤازر في غلق الفجوة الداخلية، او حتى في ايجاد صندوق ادخاري سيادي تُستثمر موارده من خلال التنويع المالي الخارجي (بسبب ضيق الطاقة الاستيعابية للموارد المالية الفائضة نحو الاستثمار الحقيقي الداخلي) إذ تؤازر عوائد الصندوق الادخاري المذكور عند الضرورة في غلق الفجوة الخارجية، فإنها مع ذلك كانت من الخيارات المتاحة أمام الاقتصاد الوطني طوال السنوات العشر الاخيرة. وبالرغم من الفوائض الكبيرة التي ولدها الحساب الجاري لميزان المدفوعات العراقي والموازنة العامة معاً خلال عقد مزدهر من الوفرة المالية الريعية الا انها لم تحقق شيئاً في بناء الاقتصاد وتنميته وجعله اقل احاديةً والذي يمكن تسميته (بعقد التنمية الضائع).
خامسا: ختاما، ليس من خيار أمام الدولة العراقية اليوم (الشعب والحكومة والبرلمان) الا طريق الاصلاح والعمل بروح الفريق الواحد في حماية الاقتصاد الوطني من الهدر والفساد وبناء اسس الدولة الاقتصادية الحديثة القائمة على تنمية السوق التنافسي الاجتماعي وتحقيق دولة الرفاهية المُوفرة لأسس الكفاية الانتاجية ومبادئ العدالة في توزيع الدخول والثروات.
(**) تؤكد النظرية الاقتصادية الكينزية، عبر منهجها المسمى: طريقة الادخار-الاستثمار في توازن ميزان المدفوعات، على ان العلاقة بين الادخار والاستثمار هي الاداة التي تفسر مركز الحساب الجاري في ذلك الميزان. فالاختلاف بين قيمة الاستيرادات وقيمة الصادرات من السلع والخدمات هي نظير الاختلاف بين الادخار المرغوب والاستثمار المرغوب. فتوازن الحساب الجاري لميزان المدفوعات الذي يؤدي الى تحسين الادخار هو ناجم بالضرورة عن الاستثمار المرغوب المناظر له والمعظم للدخل.