يغير نهر الزمن مجراه، فيتفق مجموعة أصدقاء على اعتراضه، أو عبوره بالنحت الخيالي لضفافه. يهدر الزمن أو ينشز في هديره، يطفح أو يشح، فينظم الأصدقاء المتفقون، الساكنون في حوضه، شبكة خيالية من القواعد والأساليب لإعادته إلى صوابه. على هذه الوتيرة من التبدلات، اتفق ثمانية أصدقاء، أواخر العقد الستيني من القرن الماضي، على كتابة نص خيالي متعدد الفصول لاستعادة الرحلة «السندبادية» الشهيرة، وتنغيم حياتهم مع تبدلات النهر الذي يصب في حوضهم، قبل خروجه إلى الخليج البحري بسفنهم الخيالية، كما خرج بسفينة السندباد من
قبل.
كان الأصدقاء يسكنون حول المصب، وفي ضميرهم الراكد أن يحركوا أمواج الزمن لتنطق بفم السندباد المغامر، وتعيد سرد رحلته بأكثر من صوت وحركة ونغم. كل منهم حاول أن يحفر في صخرة المصب العظيمة أسطورته التي خلفها الزمن وراءه حفراً أنطولوجياً بلغة ذلك العقد من السنين يساوي بين خيبتهم وجموحهم، ويعوض عن تجربتهم الستينية في الخروج من مصب انقلاب شباط الأسود إلى عرض البحر. قرروا أن يكتبوا بلغة السفر السندبادية نصوص هجرتهم ضد المجرى العنيف لزمنهم، ثم اختاروا لمجموعتهم اسم «سندباديون».
بحث «السندباديون» عن كتابة تقاوم العار والنسيان وتجاور الكفاح المشترك لجماعات أدبية وفنية وفكرية، طالعة من نقاهة مدن العراق السهلية، كجماعة «الظل» التشكيلية، ومجلات «الكلمة» و «شعر 69» و»القصة»، وجماعة كركوك، وجماعة مقهى السعدون الوجودية، فركبوا البحر في أثر التاجر المغامر، ليدركوا أقصى جزيرة تلوح صخورها أمام لغتهم «المقرطسة» بقرطاس الغرور والتجاوز لائتلافات زمنهم السياسي، العراقي والقومي، وكان بحرهم يمتد من عصر الظلمات العجائبي إلى عصر الجماعات المؤتلفة حول مصب الحقيقة
وصخورها.
انبثقت فكرة جماعة «السندباديين» من لقاء ثمانية أدباء وفنانين (محمود عبد الوهاب وحسين عبد اللطيف وعبد الجليل المياح وياسين النصير وشاكر حمد وعلي طالب وخالد الخميسي وكاتب هذه السطور) خلال نزهة شتوية في حدائق شط العرب، واتفقوا على تأليف سبعة فصول مسرحية بعدد رحلات السندباد البحري، على أن يعقب العضو الثامن (محمد خضير) على الفصول السبعة بنص ختامي يغلق مدار الزمن السندبادي. لكن ما أنجزه السندباديون ظل متفرقاً ومجهولا، فكأن تلك النزوة الجيلية ارتطمت بصخرة الزمن التي سدت فوهة الكلام المباح قبل إسفار عروضها على المسرح.
في أحد اللقاءات خلال شتاء 1969 ناقشت الجماعة النص التمثيلي للفنان علي طالب وقد تلخص في رقصة ثنائية تجمع رجلا وامرأة متنكرين بقناع احتفالي من أقنعة الجزر السرنديبية. وأتخيل الآن العرض الذي عقده علي طالب حول إحدى رحلات السندباد، وأتابع تلك الرقصة الفاتنة لكائنين مسجونين على الجزيرة كآخر ظهور للفنان بين أعضاء الجماعة. ولعل العرض الآخر الذي طرحه الفنان شاكر حمد أكد ذلك الارتطام الوشيك بصخرة الزمن التي تعترض جموح الجماعة وافتراقها عن مرحلتها. عندما عرض شاكر حمد فكرة عودة السندباد من إحدى رحلاته إلى ميناء المدينة، واضطراب تجار السوق لوصوله، كان أعضاء الجماعة تواقين لمشاهدة العرض الذي سيدعمه الفنان بلوحات تشكيلية تعلق الزمن عند هذه المرحلة من التيه البحري بانتظار رحلة قادمة. وكان عرضه المسرحي مطابقاً لتبدل اللحظة السياسية وتعاملات السوق الدراماتيكية.
أما حين أرجع بنفسي إلى موقع نصي الختامي من اللحظة الدرامية تلك، فسأجد أني كنت أكثر خلطاً لتطلعات الجيل بمغامرات الرحلات السبع التي قد تنتهي كما ينتهي أي عرض خيالي على مسرح الزمن السندبادي المتعين بفروض واستبدالات مرحة ومأساوية كاستبدالات الزمن العراقي. عقبت على نصوص زملائي بأكبر قدر من المؤثرات السمعية والبصرية، فأخرجت نصي بسينوغرافيا عرض لا حدود لمساحته وحوادثه. أقمت مزاداً في الميناء، وناديت فيه لبيع سفينة السندباد بعد عودتها من الرحلة السابعة، وعرضت معها جواريه وممتلكاته من الثياب والرياش والجواهر والخناجر والزيوت العطرية. كانت تلك فرصتي لعرض فكرتي عن انهيار الحلم السندبادي (أو نهوضه من جديد) وسط اختلاط المخلوقات والأجناس وألعاب السحر والخداع في شكل مشاع من الفرجة الساخرة. وكان مركز العرض الغرائبي يحتله قفصان من القرود الناطقة والطيور المخلوقة بوجوه بشرية. وساح خيالي وراء «عجائب» القزويني كي أوفر حضوراً للمسوخ والغيلان التي بدأت تشق الزمن الستيني وتتكنى بأسماء طوطمية
وتاريخية.
برز مشروعنا السندبادي وسط زحام جماعات أدبية وفنية، وعروض مسرحية وسينمائية وتشكيلية، وصحافة ثقافية احتوت طلائع الزمن ولغاتها. كما ظل المشروع في ذاكرة محمود عبد الوهاب، أحد أعضاء الجماعة، فكرة لم تكتمل حتى وفاته، ولا أعرف امتداده لدى الأعضاء المغتربين (علي طالب وخالد الخميسي). أما أولئك المغادرين بأرواحهم من أعضاء الجماعة فقد تركوا السفينة راسية حتى اليوم في مرفأ الزمن الضحل.
قبل.
كان الأصدقاء يسكنون حول المصب، وفي ضميرهم الراكد أن يحركوا أمواج الزمن لتنطق بفم السندباد المغامر، وتعيد سرد رحلته بأكثر من صوت وحركة ونغم. كل منهم حاول أن يحفر في صخرة المصب العظيمة أسطورته التي خلفها الزمن وراءه حفراً أنطولوجياً بلغة ذلك العقد من السنين يساوي بين خيبتهم وجموحهم، ويعوض عن تجربتهم الستينية في الخروج من مصب انقلاب شباط الأسود إلى عرض البحر. قرروا أن يكتبوا بلغة السفر السندبادية نصوص هجرتهم ضد المجرى العنيف لزمنهم، ثم اختاروا لمجموعتهم اسم «سندباديون».
بحث «السندباديون» عن كتابة تقاوم العار والنسيان وتجاور الكفاح المشترك لجماعات أدبية وفنية وفكرية، طالعة من نقاهة مدن العراق السهلية، كجماعة «الظل» التشكيلية، ومجلات «الكلمة» و «شعر 69» و»القصة»، وجماعة كركوك، وجماعة مقهى السعدون الوجودية، فركبوا البحر في أثر التاجر المغامر، ليدركوا أقصى جزيرة تلوح صخورها أمام لغتهم «المقرطسة» بقرطاس الغرور والتجاوز لائتلافات زمنهم السياسي، العراقي والقومي، وكان بحرهم يمتد من عصر الظلمات العجائبي إلى عصر الجماعات المؤتلفة حول مصب الحقيقة
وصخورها.
انبثقت فكرة جماعة «السندباديين» من لقاء ثمانية أدباء وفنانين (محمود عبد الوهاب وحسين عبد اللطيف وعبد الجليل المياح وياسين النصير وشاكر حمد وعلي طالب وخالد الخميسي وكاتب هذه السطور) خلال نزهة شتوية في حدائق شط العرب، واتفقوا على تأليف سبعة فصول مسرحية بعدد رحلات السندباد البحري، على أن يعقب العضو الثامن (محمد خضير) على الفصول السبعة بنص ختامي يغلق مدار الزمن السندبادي. لكن ما أنجزه السندباديون ظل متفرقاً ومجهولا، فكأن تلك النزوة الجيلية ارتطمت بصخرة الزمن التي سدت فوهة الكلام المباح قبل إسفار عروضها على المسرح.
في أحد اللقاءات خلال شتاء 1969 ناقشت الجماعة النص التمثيلي للفنان علي طالب وقد تلخص في رقصة ثنائية تجمع رجلا وامرأة متنكرين بقناع احتفالي من أقنعة الجزر السرنديبية. وأتخيل الآن العرض الذي عقده علي طالب حول إحدى رحلات السندباد، وأتابع تلك الرقصة الفاتنة لكائنين مسجونين على الجزيرة كآخر ظهور للفنان بين أعضاء الجماعة. ولعل العرض الآخر الذي طرحه الفنان شاكر حمد أكد ذلك الارتطام الوشيك بصخرة الزمن التي تعترض جموح الجماعة وافتراقها عن مرحلتها. عندما عرض شاكر حمد فكرة عودة السندباد من إحدى رحلاته إلى ميناء المدينة، واضطراب تجار السوق لوصوله، كان أعضاء الجماعة تواقين لمشاهدة العرض الذي سيدعمه الفنان بلوحات تشكيلية تعلق الزمن عند هذه المرحلة من التيه البحري بانتظار رحلة قادمة. وكان عرضه المسرحي مطابقاً لتبدل اللحظة السياسية وتعاملات السوق الدراماتيكية.
أما حين أرجع بنفسي إلى موقع نصي الختامي من اللحظة الدرامية تلك، فسأجد أني كنت أكثر خلطاً لتطلعات الجيل بمغامرات الرحلات السبع التي قد تنتهي كما ينتهي أي عرض خيالي على مسرح الزمن السندبادي المتعين بفروض واستبدالات مرحة ومأساوية كاستبدالات الزمن العراقي. عقبت على نصوص زملائي بأكبر قدر من المؤثرات السمعية والبصرية، فأخرجت نصي بسينوغرافيا عرض لا حدود لمساحته وحوادثه. أقمت مزاداً في الميناء، وناديت فيه لبيع سفينة السندباد بعد عودتها من الرحلة السابعة، وعرضت معها جواريه وممتلكاته من الثياب والرياش والجواهر والخناجر والزيوت العطرية. كانت تلك فرصتي لعرض فكرتي عن انهيار الحلم السندبادي (أو نهوضه من جديد) وسط اختلاط المخلوقات والأجناس وألعاب السحر والخداع في شكل مشاع من الفرجة الساخرة. وكان مركز العرض الغرائبي يحتله قفصان من القرود الناطقة والطيور المخلوقة بوجوه بشرية. وساح خيالي وراء «عجائب» القزويني كي أوفر حضوراً للمسوخ والغيلان التي بدأت تشق الزمن الستيني وتتكنى بأسماء طوطمية
وتاريخية.
برز مشروعنا السندبادي وسط زحام جماعات أدبية وفنية، وعروض مسرحية وسينمائية وتشكيلية، وصحافة ثقافية احتوت طلائع الزمن ولغاتها. كما ظل المشروع في ذاكرة محمود عبد الوهاب، أحد أعضاء الجماعة، فكرة لم تكتمل حتى وفاته، ولا أعرف امتداده لدى الأعضاء المغتربين (علي طالب وخالد الخميسي). أما أولئك المغادرين بأرواحهم من أعضاء الجماعة فقد تركوا السفينة راسية حتى اليوم في مرفأ الزمن الضحل.