يتحدث العقابي عن فكرة الرواية الرئيسة قائلا إننا حينما نتأمل الحالة العراقية الراهنة، لابد أن يقفز إلى الذهن سؤال تفرزه المقارنة بين وضع العراق الحالي ووضعه قبل أربعين عاماً.
السؤال هو: لماذا حدث هذا التخلف في بنية المجتمع العراقي؟، ويجيب عن تساؤله هذا بأنه ربما يكون هناك جواب جاهز، وهو بسبب النظام القمعي الذي بدا على أبشع صوره نهاية السبعينيات وما تلاه من حروبٍ وحصار واحتلال، لكن (في رأيي) «إن هذا الجواب يبقى ناقصاً، إذ إن هناك عاملا مهماً لعب دوراً كبيراً في ما آلَ إليه الوضع الاجتماعي، وهو كمون حالة النكوص في الشخصية العربية بشكل عام والشخصية العراقية بشكل خاص.
حالة النكوص هذه، قد تتراجع أو تسبت في ظرفٍ ما، لكنها تستيقظ بنشاط وعدوانية (كأنها تنتقم لنفسها) حينما تتوفر لها الظروف.
هذه الحالة ناتجة عن ثقل الماضي المتجلي في أغلب الأحيان بسيادة العقل الديني وغياب أو اضمحلال العقل العلمي. وهكذا.. حينما يكون الفرد أو المجتمع منقاداً إلى الماضي يصبح تطوره متذبذباً ولا يتخذ مساراً تصاعدياً أو مواكباً لتطور الشعوب الأخرى، بل هو معرّض للانكسار والتراجع في حال توفر المبررات لهذا الانكسار كالحروب والأنظمة الدكتاتورية.
أجيال القلق
يتابع العقابي حديثه، قائلا: أنا وجيلي، تفتح وعينا في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وما تميز به هذا العقد على الرغم من حالة القلق وانتشار رائحة الخديعة في أجوائه، وجود هامشٍ للحرية لا يمكن نكرانه، أنتج استقراراً نسبياً، انعكس تأثيره بوضوح في كل مفاصل الحياة العراقية، من الوعي السياسي والثقافي وحتى سلوك الفرد وطريقة أكله وملبسه، خاصة لدى الشباب من طلبة الجامعات والمثقفين. وبرغم الصراع الأيديولوجي الذي كان يسود، إلا أن الشباب نال شيئاً من إيجابيات هذا الصراع (وإن كانت قليلة)، متمثلا بعنفوان شبابي يتخطى العدمية إلى رسم ملامح مستقبل كان يمكن أن يكون زاهــــراً لولا ما حـــدث في نهـــاية
العقــد.
حالة النكوص في الشخصية العراقية وفي المجتمع العراقي، كانت تلح عليّ باستمرار خاصة وأنا عشت المرحلتين بكل أحداثهما، من الانتماء السياسي لليسار في زهوهِ حتى انكساره وهزيمتهِ، ليحل الخراب الذي نراه الآن والمتمثل بوضوح في تفكك المجتمع العراقي وصراع مكوناته الإثنية
والطائفية.
ويتابع : كذلك في الانحدار المذهل الذي بدا صارخاً بوضوحه على المستوى الاجتماعي. إضافة إلى ذلك إقامتي التي تجاوزت الثلاثين عاماً في بلد كالدنمارك، تجعل أمر المقارنة فخاً لا يمكن تجنب الوقوع فيه، وتمنح المتأمل فرصةً لرؤية المشهد من خارج دائرة
الحدث (ليس بمعنى اللامبالاة وإنما بمعنى الوضوح الناتج عن رؤية المشهد بأعصاب هادئة).
رواية الخراب
لكن ما الذي قدمه العقابي في روايته هذه؟ وكيف أعاد إنتاج واقعنا سردياً؟
وفي هذا يشير إلى أنه منذ أكثر من عشر سنوات، حينما ظهر الخراب بفضائحيةٍ مخجلة بعد تفكك الدولة الوطنية لتحل محلها دولة المحاصصة الطائفية:
كتبت الفصل الأول من رواية، وضعت لها عنوانا ذا دلالة مباشرة هو (بول البعير)، إلا أني توقفت عن الكتابة لسبب مزاجي، لكن الفكرة كانت من السطوة بحيث لم أستطع تجاهلها.
ويضيف : عدت إليها بعد أن أدخلت نفسي في دورة تهذيبيةٍ لأكتشف وقاحة العنوان المتمثلة باستعلائيةٍ تفضح نفساً نفاجة، تحاول تبرئةِ نفسها مما أصاب غيرها، بل إنها كانت تجهل أن هذه الاستعلائية الجاهلة والكامنة في الشخصية العراقية أسهمت بشكل كبير في هذا الخراب، فهذا (التراجع) لم يفلت منه أحد، بل من الصلفِ أن يُخرج الإنسان نفسه من دائرة الصراع، منزهاً إياها عما حل في العراق، والأمر لا علاقة له في مكان الإقامة، فقد وجدت أن عراقيين كثراً ساعدتهم المصادفات أن يكونوا بعيدين عن المؤثرات الخارجية التي أسهمت في خراب المجتمع العراقي، أصابتهم حالة النكوص.
هذه الحالة أغرتني على الغور في شخصية الرجل العراقي وما تعانيه من انفصام تفضحه المرآة والمرأة، فهي شخصية
بقيت تحمل تعصباً عشائرياً وانشداداً إلى الماضي حتى لو ادّعت الرغبة في التجاوز والتحضر، وحتى لو عاشت في مجتمعات توفر لها ما يساعدها على الانفلات من قيود
الماضي لتجلو عن نفسها الصدأ المتراكم.
هذا الانشداد إلى الماضي حوّل الضحية إلى جلاد أسهم في قتل مستقبلهِ المتمثل في الأجيال الجديدة.