أروع معلقات الشعر الشعبي هي تلك التي يلتمع فيها راسب من متخيل الأساطير أو حكايات الشعوب. قلت هذا وأنا أتأمل قصيدة رائعة فيها بيت يتضمن حكاية ذات رمزية تشع من آلاف السنين. ولكن قبل تأمل البيت والقصة، دعوني أذكركم بالقصيدة. إنها تحفة الملا عبد الحسين الحلي المعروف بـ»صبره»، التي غناها رياض أحمد في موال بطور المحمداوي، ويقول فيها؛ بحشاشتي سهمك مضى.. وعكبك علي ضاك الفضا.. اللي حظى بوصلك حظى.. والما حظى يا ول الحظ! ثم يكمل؛ حظه ردي وعمره اخسره .. اللي لشخصك ما يرى .. جفني امعيي من الكرى.. ما استلذ عكبك واغمض.
ثم يستمر الشاعر في رباعيات لا ألذ منها حتى ينتهي إلى القول؛ شظت يناهي بلا أصل.. جي كطع حبلي المتصل.. روحي اخلصت ساعة كبل .. سعفة ابهبوب واختض.. تختض وحك مكه ومنى.. وامست الروح مدوهنه.. آنه العله راسه بنه.. عشه الغراب وبيّض. نعم، هنا مربط الفرس إذ يستعيد الملا صورة بناء الغراب عشه على رأس عاشق ما. ومصدر صورته حكاية خرافية يتناقلها متخيل العرب، لكنها تعكس راسبا أسطوريا لا يخصهم، بل يحيل لمخيلة شعوب نهرية لا بدوية.
تتصل الحكاية بمجنون ليلى، قيس بن الملوح، الذي يقال إنه حين رأى ليلى للمرة الأولى ذهل لجمالها. كانت ذاهبة للينبوع والجرة على كتفها، فتبعها واستوقفها، ثم جلسا عند الينبوع وراح يبثها غرامه ولواعج شوقه. ثم طلب منها موعدا، فواعدته في المكان نفسه، وقالت له أن ينتظرها لاحقا دون أن تحدد ساعة بعينها. وبعد أيام، جاء قيس وجلس منتظرا، لكن حبيبته لم تأت إذ انها نسيت الأمر تماما وشغلتها أمور الحياة. وبعد أشهر، حدث أن مرت بالينبوع مصادفة، فرأت شجرة خضراء قصيرة نبتت قرب الينبوع. كان منظر الشجرة غريبا جدا، فتقربت منها وتمعنت فيها. وإذا هي ليست شجرة، بل رجل جالس هو حبيبها قيس. لقد جلس العاشق في المكان نفسه الذي واعدته عنده، وظل ينتظر أياما وليال حتى تبدل حاله وطالت لحيته وشعر رأسه. ثم التفت الحشائش حوله، وتسلقته بحيث غدا أشبه بالشجرة. والغريب أن ليلى لاحظت أن ثمة عش غراب على رأسه، وفي العش بيوض؛ آنه العله راسه بنى ..عش الغراب وبيّضْ !
ولكن ما هو الراسب الأسطوري النهري الذي تعكسه هذه الحكاية يا ترى؟ انتظروا أجابتي عن الأمر قريبا.