ينتقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أزمة الى أزمة. وما أن اخفق في اقامة ما يسميه بـ»المنطقة الآمنة» في سوريا حتى توغل في محافظة نينوى العراقية. وعندما كان مطلوباً منه ان ينضم الى الائتلاف الدولي الذي تقوده اميركا ضد تنظيم «داعش» الارهابي، ذهب الى اعلان الحرب مجدداً على «حزب العمال الكردستاني»، واسقط قاذفة «السوخوي-24» الروسية على الحدود السورية مثيراً بذلك أخطر أزمة بين روسيا ودولة عضو في حلف شمال الاطلسي منذ اكثر من نصف قرن.
ومنذ ان عاكست الرياح مشروع أردوغان الاقليمي القائم على حكم «الاخوان المسلمين» في مصر وسوريا وسائر الدول العربية لتكون تركيا هي زعيمة الاسلام السياسي في المنطقة مستعيدة نفوذ السلطنة العثمانية، بدا ان أحلام الرئيس التركي في لعب الدور المحوري في الشرق الاوسط قد تبخرت مرة واحدة والى الابد. وتعويضاً عن سقوط المشروع الاردوغاني مع سقوط حكم «الاخوان» في مصر وتعثر وصولهم الى الحكم في سوريا وخسارتهم الحكم في تونس وعدم امتلاكهم النفوذ المطلق في ليبيا التي تضربها الفوضى وكذلك الحال في اليمن، يسعى أردوغان الى البحث عن دور آخر لا يفقده كامل نفوذه في الاقليم.
واتساقاً مع هذا التوجه بقيت تركيا هي البوابة الرئيسية لتسلل آلاف المقاتلين الاجانب الى سوريا والعراق للالتحاق بـ»داعش». وبقيت تركيا معبر التنظيم الارهابي لبيع نفطه المسروق من الحقول السورية والعراقية. وظل اردوغان يناور ويراوغ ويرفض تنفيذ قرارات مجلس الامن التي تدعو الى تعاون الدول في حرمان «داعش» من مصادر التمويل او تلك التي تطالب بمنع مرور المقاتلين الاجانب الى سوريا. ويعرف الغرب ايضاً ان تركيا هي بوابة العودة لمئات المقاتلين الاجانب من سوريا الى اوروبا تماماً مثلما كانت ممرهم من اوروبا الى سوريا والعراق أملاً في ان يسهم ذلك في اسقاط النظام السوري.
ويعلم الغرب ولا سيما اميركا ان اردوغان لا يريد محاربة «داعش» لان هذا التنظيم الارهابي وسائر التنظيمات الارهابية الاخرى في سوريا، هي الحصان الاسود لتركيا كي تحتفظ بنفوذها في الساحة السورية. لكن الغرب لا يفعل ما يكفي لحمل أنقرة على تغيير سياستها. ولعل التساهل الغربي مع ممارسات اردوغان التسلطية في الداخل وغض النظر عن الدعم التركي للارهاب في سوريا والعراق مقابل سماح أردوغان للمقاتلات الاميركية بالانطلاق من قاعدة انجيرليك التركية لشن غارات على اهداف لـ»داعش» في سوريا والعراق. لكن الاضرار الناجمة عن المرونة الغربية حيال اردوغان بدأت تفوق الخدمات التركية لاميركا. وآخر تجليات هذه الاضرار هي احتمال توريط انقرة لحلف شمال الاطلسي في مواجهة ساخنة مع روسيا عقب اسقاط القاذفة الروسية في 24 تشرين الثاني.
واليوم تدخل القوات التركية الى محافظة نينوى في وقت يحقق العراق فيه تقدماً في معركته ضد «داعش» في الرمادي ويستعد لبدء مرحلة تحرير الموصل، فهل يكون هذا الدخول محض صدفة أم انه محاولة لمنع الحكومة العراقية من استعادة السيطرة على الموصل وخلط الاوراق ميدانياً. والادهى من ذلك ان الرئيس التركي يدعي انه أدخل قواته الى العراق بطلب من الحكومة العراقية وانه لن يسحب هذه القوات على رغم من مطالبة المسؤولين العراقيين بهذا الانسحاب في اسرع وقت ممكن.
إلا ان اردوغان يرى ان دخوله الى العراق اليوم يوفر له ورقة مساومة أخرى في يده لاستخدامها في الاحتفاظ بنفوذه الاقليمي ما استطاع الى ذلك سبيلاً تماماً كما توفر التنظيمات الارهابية في سوريا مساحة نفوذ لتركيا في سوريا وتمنع التوصل الى حل سياسي يوقف الحرب التي ما اندلعت الا بتحريض تركي لتدمير سوريا لأنها رفضت تسليم الحكم لـ»الاخوان».
ومع توغل تركيا براً في العراق، فإن ذلك يبعث في اذهان العراقيين الكثير مما كان يحكى عن مطلب تركي دائم بأن تكون الموصل ضمن الاراضي التركية منذ انهيار السلطنة عقب الحرب العالمية الاولى. وليس بخاف ان ضم الموصل كان ضمن المطالب التي تقدمت بها تركيا الى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919. فهل يرى أردوغان ان الظرف الاقليمي والدولي يتيح له الآن تحقيق ما عجز عنه اسلافه؟
ومع ذلك يلعب اردوغان بالنار سواء في سوريا او في العراق او مع روسيا. ولن يكون في امكانه الا ان يحرق اصابعه في النهاية.
*كاتب وصحفي لبناني





