يقفز الدافع الموضوعي بالعمل الى القمة ، ويوفر له فرص الخلود ، فضلاً عن فرص النجاح .وانّ الدافع الموضوعي النزيه يعني أنّ العمل لم يكن من اجل احراز مجد شخصي ، أو اكتساب مالٍ أو جاه، وانما كان خالصاً لوجه الله . وما أروع الأعمال الخالصة من الشوائب وما أقلها ..!! وتستوي في ذلك كُلّ الاعمال حتى اذا كانت علمية محضة ، فقد تُؤلف كتاباً تستهدف من ورائه الشهرة أو اقتناص الربح المالي ، وقد تؤلف الكتاب لتسدَّ به شاغراً تمس الحاجة الى سدّه ، دون أنْ يقترن ذلك بأيّ غرض شخصي دنيوي فيكون الهدف موضوعيا خالصاً . انّ اهم موسوعة في فقه الاماميّة هي كتاب جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام لشيخ الفقهاء وزعيمهم الشيخ محمد حسن النجفي ت 1266 الذي سمّيت اسرته بآل الجواهري نسبه الى كتابه (الجواهر) .لقد ابتدأ بتأليفه وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف ، وفرغ من كتاب الخمس عام 1231 هجرية ، بينما آخر ما كتبه كان في المواريث وكان عام 1264 هجرية – قبل وفاته بسنتين – . قال الشيخ النوري في مستدرك الوسائل حين ذكر كتاب الجواهر : «لم يصنف في الاسلام مثله في الحلال والحرام» وحدث سيدنا الجّد الامام السيد الحسن الصدر كبير علماء عصره – في كتابه تكملة أمل الآمل قال : { حدّثني شيخنا الشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي رحمه الله قال : لما أمرني استاذي صاحب الجواهر بالسكن في بلد الكاظمين والاقامة فيها لترويج الدين فقلت له : اني ارجوك ان تكتب الى الحاج علي بن الحاج محسن … التاجر المعروف الكاظمي ان يعيرني ما عنده من بعض مجلدات الجواهر فقال الشيخ : سبحان الله صار الجواهر ينسخه التجّار والله ياولدي ما كتبتُه على أنْ يكون كتابا يرجع اليه الناس ، وانما كتبته لنفسي حيث كنت اخرج الى العذارات (القرى الواقعة على فرات الحلة) وهناك أسأَلُ عن المسائل وليس عندي كتب احملها معي لأني فقير ، فعزمت على ان أكتب كتابا يكون لي مرجعا عند الحاجة … يقول السيد الصدر : فلما سمعت ذلك من شيخنا قلت : سبحان الله كنتُ اتعجب من أمرين في الجواهر : توفيقة لاتمام الشرح ورواجه الى هذه الدرجة وقد ارتفع الآن تعجبي فقال : كيف ذلك ؟ فقلتُ : ان حديثكم هذا يدل ان صاحب الجواهر لما كتبه لم يكن في خاطره شيء من لوازم حب الجاه والسمعة والتعريف، وانما كتبه لنفسه وقضاء حاجته لا غير ، وهذا هو السبب في كلا الامرين ، إتمامه ورواجه بلا مانع فقال الشيخ : صدقتَ غالب النيات مغشوشة ويتبعها لوازمها «والشيخ صاحب الجواهر هو أول مرجع أشار الى مَنْ يخلفه في الزعامة الدينية والمرجعية العليا، في سابقة خطيرة من المفيد ان نذكرها هنا : حين سئل – وهذا على فراش المرض – : من المرجع بعدك ؟ امر أنْ يجمع أهلُ الحل والعقد من العلماء ، فاجتمعوا عنده ، وكل يرى انه هو الذي سيشار اليه . وربما كان البعض يميل الى أن الشيخ سيعيّن احد اولاده ليقوم مقامه ، لأنّ فيهم من يصلح لذلك ، وحين غص المجلس بالعلماء سأل الشيخ صاحب الجواهر عن (الملا مرتضى) – اي الشيخ مرتضى الانصاري – فلم يكن حاضراً معهم ، فبعث خَلْفَه ، فلما جاء قال له : أفي مثل هذا الوقت تتركني ؟ فقال له : كنت أدعو لك في مسجد السهلة بالشفاء ، فقال له :ما كان يعود اليّ من أمر الشريعة المقدسة فهو وديعة الله عندك، ثم أشار الى انه المقلّد مِنْ بَعْدِهِ وأوصاه بتقليل احتياطاته في فتواه ..ونُقل انّ بعض الحاضرين أدمى سبابَتَهُ من النكْتَ في الارض أسفاً على الا يكون هو الخلف لصاحب الجواهر … يراجع ماضي النجف وحاضرها /ج2 ص132 أقول :لقد أنقذ الشيخ صاحب الجواهر الأمة من عناء البحث والتنقيب عمن تتوفر فيه الشرائط الموضوعية للمرجعية ، واختصر الطريق ، ويسّر الأمر فنهض بالمرجعية بعده العالم الرباني المحقق الشيخ مرتضى الانصاري – رضوان الله عليه – الذي بقيت كتبه خالدة تدرس في الحوزات العلمية كلها، فكتاباه المكاسب في الفقه، والرسائل في الاصول، هما المعتمدان للتدريس حتى يوم الناس هذا ، لخلوص النية وللدافع الموضوعي البعيد عن كل الشوائب . وهكذا يتواصل الافذاذ من علمائنا جيلا بعد جيل في التوفر على النيات الخالصة والموضوعية الكاملة … ويكفي أنْ نذكر هنا أنَّ الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) كان قد أزمع على طبع كتابه (فلسفتنا) باسم جماعة العلماء في النجف الأشرف، وليس باسمه الشخصي، إلاّ أنَّ بعضهم أراد أنْ يجري عليه شيئا من التغيير الذي لم يكن صحيحا في نظر السيد الشهيد الصدر فطُبع باسمه..!! أين هذا المسلك الموضوعي الرائع من مسالك الغارقين الى الأذقان في الذاتية، من اللاهثين وراء المال والشهرة والجاه والمكاسب والامتيازات والعناوين والألقاب التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟ ان صنفين من الناس – كما جاء في الحديث – اذا صلحا صلح الناس: العلماء والحكام