محمد برهومة
تتجاوز زيارة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني الأخيرة إلى الأراضي الفلسطينية حدود الحاجة الأردنية المُلِحّة، على المستوى الرسمي، للتفاعل مع غضب الشارع الأردني نتيجة حادث السفارة الإسرائيلية في عمّان وتفاعلات وتداعيات السلوك الإسرائيلي حيال المسجد الأقصى. لقد كان من المفترض أن يزور الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الأردن بداية هذا الشهر للتنسيق مع عمّان في شأن القدس والمسجد الأقصى، لكنّ المملكة ارتأتْ أن يذهب العاهل الأردني إلى رام الله كيلا يضطر عباس إلى كسر قرار قطع التواصل الأمني مع إسرائيل الذي اتخذته السلطة الفلسطينية ردّاً على القرارات الإسرائيلية في المسجد الأقصى. أرادتْ عمّان، ربما، تجنيب عبّاس عبء طلب التنسيق مع تل أبيب في شأن حركته الخارجية، أو ربما عبء احتمال رفض الإسرائيليين طلبه، هو الذي منع نفسه، كما تقول الأخبار من الأراضي الفلسطينية، من تلقي العلاج في الخارج بعدما ساءت حالته الصحية في الأسابيع الأخيرة حتى لا يكون أول من يخرق قرار المقاطعة الذي اتخذه. بهذا المعنى، لم تخل الزيارة من رسالة ذات مضامين خشنة وحادّة مقصودة أردنيّاً، وتستعيد محاصرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في أيامه الأخيرة في المقاطعة. الهبة الشعبية الفلسطينية كانت المحدد الحاسم في تراجع حكومة نتانياهو عن إجراءاتها في شأن القدس والمسجد الأقصى، وهي ما قوّى الانقسامات داخل مطبخ القرار الأمني الإسرائيلي حيال تداعيات تلك الإجراءات وصولاً إلى وقفها. لقد كانت الزيارة دعماً لتلك الهبّة وإعلاناً عن أن الأردن لن يفرّط في ولايته على القدس، وهو حق ثبّتته اتفاقية وادي عربة عام 1994. أخذت عمّان على محمل الجد صلف وغطرسة حكومة اليمين الإسرائيلي، وتلويحها بورقة أوحتْ بمحاولة إخراج الأردن من موضوع الإشراف الحقيقي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ما يَعُدّه الأردن توطئة لإبعاده عن مداولات أي حل أو تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، التي تعتبرها الخصوصية الأردنية جزءاً من الأمن الوطني الأردني، وقضية محلية أردنية. فعمّان طرف في الحل النهائي وفي قضايا اللاجئين والمياه والحدود والمقدسات. وإذا كانت سرت أحاديث، منذ مجيء إدارة ترامب، عن ترتيبات أميركية ومشروع أميركي لتسوية الملف الفلسطيني، تفاءل بعضهم بأنها قد تنطلق في غضون الأشهر الستة المقبلة، فإن الزيارة، التي جاءت بعد خمس سنوات من آخر زيارة للملك عبــــدالله الثاني إلى رام الله، هي إعلان عن الدور الأردني ورفض تهميشه. ومع أنّ هذا الدور يشتــق أحد ركائز قوته من العلاقة الأردنية – الأميركية، فإن الثابت أن ثمة إحباطاً أردنياً من رد فعل الإدارة الأميركية الحــالية تجاه أحداث الأقصى. فــواشنطن تماهت مع الحكومة الإسرائيلية عندما تمّ تثبيــــت أجهزة الكشف عن المعادن، وتماهت معها عندما نصبت الكاميرات الذكية، وأيّدتها عندما كان هناك حديث عن التفتيش اليدوي على بوابات الأقصى. التوتر الذي أصاب العلاقة الأردنية – الإسرائيلية في الأسابيع الماضية، وموقف إدارة ترمب من أحداث الأقصى يجبران عمّان على عدم الاكتفاء فقط بالحليف الأميركي وبخصوصية علاقة الأردن مع إسرائيل، وإنما أيضاً على التعويل على التحرك الذاتي لتوضيح الموقف وتثبيت الدور وعدم التفريط بكل ما يتيسر من أوراق قوة، واختبار الحدود التي يمكن معها للحركة الديبلوماسية والتواصل الذكي أن ينتجا حالة تدفع إدارة ترامب، وكذلك الجانبين الأوروبي والروسي، لتحَسُّسِ عواقب غضّ الطرف عن الغطرسة الإسرائيلية، وتهشيم ما تبقى من هوامش التعقّل السياسي، التي تتآكل في المنطقة يوماً بعد آخر






