هي حالة (نفسية) مرضية -بالتأكيد- تلك التي تصيبني في ساعة متأخرة من الليل، أحياناً، لحظة لا تطال الذاكرة كلمة ما أو جملة مجتزئة من بيت شعري نسيت تكملته، ولا يهدأ لي بال حتى أصل إلى النتيجة، متجاوزاً وساوس النسيان وقلقه. ربتما يرى البعض إن فسحة الشبكة الإلكترونية أصبحت الآن تمنح الكثير من التسهيلات (اللوجستية)، فما إن تضع كلمة معينة حتى يأتيك ما تريد، بل إن الأمر تطوّر إلى درجة أن تنطق بحروف ما تبحث عنه، فيتدفق عليك المدد فيضاً معلوماتياً يجعلك تشعر بطمأنينة وأمن ضمني من أن العالم بخير، مع هذا فإن لي رأياً آخر. هذه التسهيلات الحضارية لستُ سعيداً بها تماماً، وبمعنى أدقّ لا تبهجني حدّ النشوة، فإلى وقت قريب كانت المكتبة هي الملجأ في مثل هذه الحالات، وكان للبحث في ثناياها نكهة خاصة، فلم يكن البحث هشاً ومطاوعاً، يذهب أدراج النوم، حالما أجد ما أريد، مغموراً بسعادة وحبور اللحظة، لأغطّ في نوم عميق مجدّداً. تلك النهاية الآنية، نهاية لنفسها، ولعلّ النسيان يطويها سريعاً، فما يأتي بسهول ربما يذهب بسهولة أيضاً، بعكس ما كان عليه الحال سابقاً حيث تُشتّت لحظات البحث وتفاصيلها كلّ نوم، ويطول مدار البحث خارج المخدع، فيتخلّله تفاصيل لتدوينات أخرى، وربما كتابة ما.قبيل النوم، في لحظات كان الشاعر كمال سبتي يسميها “الهدنة مع الذات” وجدتني أختصم ونفسي أحياناً لأقفز من السرير باتجاه المكتبة، وكم ذا ألومها في صباح اليوم التالي، لو لم تستجب لـ (نداء المعرفة) مهزومة بالنوم، معتقداً خسارتي فرصة أخرى لا تعوض، فالحلم الحقيقي والأمنية الحقّة في تلك اللحظات كانت خارج النوم “اذهب لحلمك الآن، فالمستقبل غير مضمون لأحد” هكذا يردّد أستاذ الاستشارات النفسية (واين داير) الذي اضطررت لمراجعة أبحاثه تشخيصاً لحالتي. بالطبع يتعكّر المزاج الشخصي حين لا أحظى بحلّ، وقبل أن أتعرف إلى (كوكل) كان الاتصال بصديق أمراً حتمياً، فلا ينبئك مثل خبير يأتيك بالخبر اليقين، ولكن من لي بالمجيب في كل حين؟. في سالف الأزمنة كان الناس يقطعون المسافات طلباً لجواب، وكان لكلّ شيء طعمه الخاص. أذكر إن والدي شجعني صغيراً على الاستماع إلى برنامج ” قول على قول” من هيئة الإذاعة البريطانية، للإذاعي الشهير حسن الكرمي، حيث ترده أسئلة عن أبيات شعرية فينسب شاعرها ويروي مناسبة قولها، بإلقاء وأداء مؤثرين. وكان للبرنامج صداه الواسع في العالم العربي، إذ يتابعه الباعة في السوق ورؤساء الجمهوريات على حدّ سواء، وأذكر إن والدي بقي يحتفي لسنوات بصورة التقطها مع الكرمي منتصف سبعينيات القرن الماضي في لندن، وبقينا أعواماً كثيرة ننتظر إجابة عن بيت شعري أرسله أبي لكن لم يرده الجواب، مع هذا كان يعيش الأمل ولم تصبه حالة نفسية.

علي شايع





