– 1 – كاتب السطور مُولَعٌ باقتناص الغرائب من التجارب، يتتبعها في مظان كتب التاريخ والسيرة والأدب ، ويتلهف الى استماعها من أفواه الرجال أيضا .. ان الحياة على سطح هذا الكوكب ما هي الاّ مجموعة تجارب ..، والعاقل – كما قيل هو- : “ من اتعظ بالتجارب “ – 2 – إنّ التدقيق في تجارب الماضين يُوصل الى حصيلة مهمة من الفوائد، تُثري المتتبع، وتجعله يزداد معرفةً وخبرةً بالحياة . ويُذّكِرُهُ بتبدل الأوضاع والأحوال فيها ، فيقدح في نفسه الأمل بتحسين أوضاعه السيئة ، كما انه يوقظه من الغفلة والانزلاق الى مهاوي الطغيان والغرور، في حالات العنفوان، وبلوغ المراحل العليا من الاقتدار والسطوة…
– 3 – ولا تتسع هذه المقالة الوجيزة الى سرد العديد من الشواهد والأمثلة ، والقضايا والاخبار، وسنقتصر على ما قرأناه في سيرة شاعر الاندلس الشهير أبي بكر (محمد بن عمّار) الذي قيل عنه إنه (كان وابن زيدون كفَرَسَيْ رِهان ) ..
– 4 – بدأ (ابن عمار) حياته وهو يغص بنيران الفاقة والحرمان .. حتى انه امتدح فلاّحاً أعطاه مخلاة شعيرٍ لحماره ..!! انّ العجز عن توفير الشعير للحمار كاشفٌ عن الفقر المدقع والاحتياج الشديد لأبسط مستلزمات العيش ..!! ثم قفز (ابن عمار) بعد أن مدح الملوك ونفذ الى قلوبهم الى روابي العيش الرغيد … ولم ينس ذلك الفلاح الذي ملأ مخلاته بالشعير لحماره، فملأ له مخلاته بالدراهم وقال : ( لو ملأها بُرّاً (اي حنطةً) لملأناها تِبْرَاً (أي ذَهَبَا) سير اعلام النبلاء / ج14/79 اننا نقف هنا على منحى انساني نبيل، وهو مكافأة الاحسان بالاحسان ، ورد الجميل لمن أسدوه … وهذا كلَّه يدخلُ في باب الصفات الايجابية واللمحات الأخلاقية الحميدة . غير أنَّ(ابن عمّار) يقلب ظهرَ المِجّن لمن اسند له أعلى المناصب ، ومنحه أسمى المراتب .. وولاّه الإمارة، في مسارٍ مضاد بالكامل لمساره مع الفلاّح الذي آثر بمخلاة الشعير..!! ومن هنا يتضح انه زئبقي المزاج ..!! ولعوبٌ بعيد عن الحفاظ على ما يجب الحفاظ عليه من قِيم الوفاء والعرفان بالجميل .. ومن المؤسف ان كثيراً من ذوي المراتب والمناصب يصطفون مع (ابن عمار) في هذا المسار المذموم ويتنكرون لأولياء نعمتهم..!! ألسنا نستهجن صنيع المحترِفِين السياسيين المعاصرين الذين تسلقوا أكتاف مواطنيهم للوصول الى المراتب العليا ، ثم انصرفوا عنهم وانهمكوا في تحصيل امتيازاتهم ومكاسبهم على حساب الوطن والمواطنين … وهم الآن يبحثون عن الوسائل التي تُبقي لهم كراسيهم ..!!
– 6 – نقرأ في شعر (ابن عمّار) الاندلسي قوله : مما يُقبّح عندي ذِكْرَ أَنْدَلُسٍ سماعُ (معتَمدٍ) فيها و (معتَضدِ) أسماءُمملكةٍ في غيرِ مَوْضِعها كالهرِّيحكي انتفاخاً صولة الأسدِ وهو هجاء مقذع للمعتمد بن عباد، الذي استوزره، ثم استنابه على مرسيه ، فتمرد وعصى، الأمر الذي أضطر معه المعتمد الى استخدام كل الوسائل الممكنة للقبض عليه ، وعاقبه بأنْ ذَبَحَهُ صبراً (479 هجرية) لأنه قابل الاحسان بالعصيان ..!! ان المصير البائس ينتظر المتنكرين للأيادي البيضاء ، وكل الخائنين للأمانة وما أنيط بهم من ثقة وأعمال … انها عظة التاريخ فأين أنتم منها أيها المنقلبون على الأعقاب ؟!







 
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                         
                                                                        