بداية هل من حوار للمدن؟ الجواب نعم هناك حوار، ولكن هذا يعتمد على فهمنا للمدينة وتوصيفنا لها، فهناك مدن تراثية واثرية ودينية، وهناك مدن الانهار والبحار والسواحل، وهناك مدن السلطة والمعرفة.. فكلما تنوعت المدينة وتعمقت في التاريخ وانفتحت على الامم الاخرى امتلكت ابجديتها الخاصة وحوارها الذي تتواصل به مع نظيراتها العربية والاقليمية، فالمدينة اشبه بالانسان، تتنفس وتنمو وتتصارع وتتصالح وتفكر،لانها مجموع، والمجموع لا يتصرف بعنجهية لانه يبحث عن التصالح مع ذاته اولا ومع من يحتويهم ثانيا لينمو. وما ان تغيب مؤسساتها وينفرد بحكمها دكتاتور يدق الخراب اساساته ولنا في تجربتنا العراقية الكثير. اقول، في العراق العديد من المدن الايقونة مثل: بغداد وبابل والنجف وكربلاء والكوفة والبصرة والموصل .. هي مدن حوار، مدن كتبت التاريخ، ومنها جاءت القصص والمسرحيات المشبعة بالخيال والواقعية والحكمة والفلسفة.. وهي اذ جمعت الفكر والشهرة فلأنها مدن فكر ودين وعسكر وخلافة وسلطة.. ما زالت تمتلك شخصيتها وارثها. ان حوار المدن هذا قد يكون وديا او عدائيا واحيانا اخرى يحمل طابعا تنافسيا، فالنجف الاشرف بمرجعيتها التاريخية تحاول مدينة مثل قم منافستها، كذلك الحال مع المدن الاثرية في العراق ونظيراتها في ايران ومصر. ان صولجان الريادة الذي تتنافس عليه المدن والاجيال هو احد حوارات المدن، فحديث الزعامة العربية الذي خف ضجيجه بين بغداد والقاهرة نتيجة ظروفهما، تتصارع عليه اليوم مدن تمتلك المال، لكنها لا تمتلك شخصية او حضورا في سفر التاريخ، وبعد ان عجزت عن شراء تاريخ لها بدأت بشراء الذمم لسياسيين ومثقفين واعلاميين لتصبح صاحبة قرار في المنطقة. الثقافة احد اوجه الحوار ايضا، بل هي صوت المدينة العالي بمثقفيها وادبائها، وان غاب هؤلاء غاب صوتها وجواز سفرها الى العالم. وحوار المدن الأيقونة هذا لا يفهمه حديثو المدنية، فالحداثة غير التحديث والمدنية غير التمدن، وبغداد احدى المدن الايقونة، فقد حازت بحكم موقعها وتاريخها والاحداث التي جرت فيها وعليها لغتها العالمية وحوارها المميز، لكنها تراجعت الان وخف صوتها بسبب الحروب وتخلف من تحمل مسؤوليتها. فهل يعي المسؤولون لغة بغداد وحواراتها مع نظيراتها بعد ان غيبوا المثقف عن المساهمة في صنع القرار؟ و بعد ان فتكت آفات الاهمال والتجاوز ونهم المسؤولين في شراء أبنيتها التاريخية لاقامة مشاريعهم الخاصة، كالذي يحاول شراء تاريخ له. لم تشهد بغداد تعميرا في عقدها الاخير، بينما تحترم الدول معالمها الاثرية وتنسج القصص حولها وتبرزها الى العلن وتجعلها واجهة المدينة السياحية. ولنا ان نتصور كم من معلم أثري في بغداد مهمل نتيجة الغباء والجهل. في سِني المهجر العجاف المخضرة رأينا كيف تحتفل المدن بلوحات رسمت عن قلعة او مدينة اثرية، او تعتني ببناية عمرها مئة عام وتعتبرها احد رموز المدينة، لا انها تحافظ على تقاليدها الثقافية.. اما بغداد الملأى بالمعالم الاثرية التي تئن من الاهمال وجحود ابنائها، فلا من محتف او مكرم، نمر بها وتمر بنا، نتجاذب معها اطراف الحديث صمتا، هي خجلى منا ونحن خجلون من عجزنا وتقصيرنا تجاهها، ولسان حالها يقول من يهمل التاريخ يهمل الانسان.