في كلِّ عمل جمعيّ أو حِراك تسهم فيه قوى المجتمع، طبيعيٌ جدّاً أن يكون للكتّاب والمثقفين حضور، هو جزء من كلّ، وفي حالة الاحتجاجات العراقيّة التي تنتظم حالياً في تظاهرات تعمّ محافظات وسط العراق وجنوبه، حضر الرسّام إلى جوار الشاعر، وتجمّع الفنّانون المسرحيون وهم ينشدون بأعلى أصواتهم مع جموع الناس، للحريّة وللحقّ ولأجل الإصلاح.رمزيّة ساحة التحرير، ثقافيّاً، أكبر من توصيف عابر في مقال صحافيّ، فالعمل الجبّار- نصب الحريّة- لجواد سليم، الذي أودى حتّى بحياته يوم تعرّض إلى نوبة قلبيّة بسبب جسامة المهمة، تجتمع تحته شتّى الملل والأهواء والجماعات، هناك تستعيد الثقة بقيمة صوتك، إذ يلاقيك شعار “سامحني يا عراق تأخّرت عليك كثيراً”، وبين الجموع تظفر بسخرية وروح تفاجئك بما تخلقه من “فُكاهة مُرّة”، ومن بين ذلك لافتة تقول: “يا حريمة انباكن الكصبات من هور الجبايش ويا هضيمة انباكن النفطات من كاع الطوايف”، في مؤشّر على سعة الخيال الذي استثمر أغنية عراقيّة معروفة، ليكون المضمون إدانة اجتماعيّة عامّة لمن تصدّى للمسؤولية بعد نيسان العام 2003، عبر ثيمتي “القصب” و”النفط”.كَثُرَ الحديث عن طبيعة التظاهرات وتوجّهات المتظاهرين، ولمن الكفّة؟ للعلمانيّين أم للإسلاميّين، للمؤدلجين أم للمستقلين؟ وهذا كلام بعيد عن أهداف الاحتجاج نفسه، إذ لسنا اليوم في سباق انتخابيّ، العراقيّ الداخلُ إلى “التحرير”، مجرّد من كلّ انتماء، إلا للعنوان الأكبر والهويّة الوطنيّة، ما دامت الشعارات تعبّر عن حال الشارع وتترجم غضبه، والسلوك سلميّ حضاريّ، وهذا هو المكسب الذي لا بدّ للحراك المدنيّ من استثماره وتعزيز وجوده في الساحة وغيرها، لا أن نغرق في التحليل وتأخذنا الافتراضات بأنّ المتظاهرين – أو تطلّعاتنا عنهم – في نسق واحد وفكر يتفق وقناعاتنا الشخصيّة فقط.نجاح الحضور المدنيّ مرهون بتحقيق الأهداف الكبرى، التي يجدر بالمثقفين والكتّاب والنخب الفنيّة والأكاديميّة دعم مسارات بلوغها، بتحويل الاحتجاج إلى مناسبات ثقافيّة وفنيّة داخل ساحات التظاهر، حلقات ومجموعات تنسّق من أجل أنشطة أسبوعيّة تمنح المزيد من الثقة للمواطن في أن يأتي ويطالب بحقّه وببناء دولة عادلة توقف هذا الفشل الإداريّ والفساد الذي نقبع تحته منذ أكثر من عقد تقريباً.المهم الآن تدعيم ديمومة هذا الحِراك، لا أن ننشغل بالتنظير غير المجدي، من قبيل السؤال الذي لا تحلّ إجابته أي مشكلة من مشكلاتنا الراهنة: “المدنيون موجودون بقوّة أم لا؟”، فالتظاهرات اليوم أكبر من أي حزب أو اتجاه وأيديولوجية، هي التعبير الأمثل عن عذابات ما مرّ من السنوات، من ضياع وإهدار لفرص البناء وإدامة السلم الاجتماعيّ والحفاظ على أرواح الأبرياء.العفوية سيّدة الموقف في ساحة التحرير، فلا قيادة يمكنها ضبط إيقاع صحوة الشباب العراقيّ، ولا نخبة تستطيع الآن تقديم تنظيرات دقيقة عن حراك الشارع؛ لأنّ الصورة ترسمها خطوات المحتجّين في طريقهم صوب ساحات الحريّة.