عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي
عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي

ترياق قديم لسموم {داعش} بقلم: مصطفى اكيول/ترجمة – أنيس الصفار

المقالات 26 ديسمبر 2015 0 181
ترياق قديم لسموم {داعش} بقلم: مصطفى اكيول/ترجمة – أنيس الصفار
+ = -

 

مرة أخرى تثبت المجازر الأخيرة التي ارتكبت في باريس وسان برناردينو بكاليفورنيا قدرة ما تسمى “الدولة الاسلامية” على كسب شريحة من المسلمين الذين تتسلط عليهم مشاعر المظلومية والتهميش، فمن خلال مزيج قائم على التفسيرات الحرفية للنصوص الاسلامية واليقين الذاتي بالاحقية المشروعة تمكنت هذه الجماعة المتشددة من اغراء اليافعين من الذكور والاناث المنتمين الى دول تمتد من باكستان الى بلجيكا بأن يقطعوا عهد الولاء لها ويرتكبوا اعمال العنف باسمها.
لهذا السبب يجب أخذ ايديولوجيا “داعش” الدينية مأخذ الجد وعدم الاستهانة بها. لا شك أن من الخطأ الادعاء بأن فكر هذه الجماعة يمثل التيار السائد في الاسلام، وهو ما يردده غالباً الاسلاموفوبيون، ولكن من الخطأ ايضاً الاعتقاد بأن “داعش” ليست من الاسلام في شيء، وهو ما يحب أن يدعيه كثير من المسلمين في ردهم على الاسلاموفوبيين، فقياديو الحركة في الواقع مشربون بفكر الاسلام وتعاليمه، ولكنهم يستغلون معرفتهم تلك لتحقيق مآرب وحشية منحرفة.
خير نقطة نبدأ منها لفهم عقيدة “داعش” هي قراءة “دابق”, وهي مجلة الكترونية باللغة الانكليزية تصدرها الجماعة كل شهر، وقد كانت احدى ابرز المقالات التي قرأتها في هذه المجلة مقالة طولها 18 صفحة بعنوان: (الارجاء: اخطر البدع).
لعلك لا تعرف معنى كلمة “الارجاء”، اللهم إلا أن تكون من المطلعين على العلوم الاسلامية في زمن القرون الوسطى. الكلمة بحد ذاتها تعني “التأجيل”، وهو مبدأ في العلوم الاسلامية طرحه بعض علماء المسلمين في مطلع القرن الأول من عمر الاسلام، ففي ذلك الزمن كان العالم الاسلامي يعيش حالة حرب اهلية كبرى اقتتل فيها اوائل السنة مع اوائل الشيعة في نزاعهم على السلطة. علاوة على هذين الطرفين كانت هناك جماعة ثالثة تدعى بـ “الخوارج” وهؤلاء يكفرون كلا الجانبين ويقتلونهما. بوجه هذه الفوضى الدموية العارمة طرح مناصرو الارجاء رأياً يقول بتأجيل الفصل في هذه المسألة الشائكة، مسألة من هو المسلم الحقيقي الصادق، الى الحياة الآخرة. ارتأى هؤلاء العلماء أنه حتى المسلم الذي يتخلى عن جميع شعائر دينه وينزلق في المعاصي يمكن اعتباره “مرتداً” فقط، لأن الايمان مسألة مكمنها السريرة والسرائر ولا يعلمها إلا الله وهي ليست من شأن بشر.
يعرف العلماء الذين طرحوا هذا الطرح باسم “المرجئة”، أي دعاة الإرجاء, والطرح الذي رسموا حدوده يصلح لأن يكون قاعدة لقيام إسلام متسامح لا قسري تعددي، اي ليبرالية اسلامية. ولكن الأمر المؤسف هو انهم لم يتمكنوا من امتلاك ما يكفي من النفوذ في العالم الاسلامي، وهكذا اختفت هذه المدرسة الفكرية بسرعة ولم يخلد منها شيء في الذاكرة السنية الارثوذوكسية المحافظة سوى أنها كانت احدى بدع الزندقة الطائفية. إلا أن المرجئة تركوا بصمة على الجناح الأقل تزمتاً من الاسلام السني المتمثل بالمتريدية الحنفية، وهو المذهب الأكثر شيوعاً في مناطق البلقان وتركيا وآسيا الوسطى. أما من الناحية الفعلية فلم تعد هناك اليوم جماعة اسلامية يمكن أن تنسب نفسها الى المرجئة، بل أن كلمة الإرجاء نفسها صارت نادراً ما تسمع في المناقشات الفقهية الاسلامية.
لماذا اذن تشعر “داعش” بكل هذا التوجس من “زندقة” تاريخية قديمة؟ الجواب على هذا السؤال نجده في مقالة “دابق” نفسها حيث يتهم كاتبوها الجماعات الاسلامية المتمردة الاخرى في سوريا بالارجاء. يشير كتاب “داعش” بازدراء الى هؤلاء بالقول: “تلك الفصائل لا تحكم وفق الشريعة رغم انها تسيطر على اراضٍ محررة.” ومعنى هذا الكلام انهم لا يقتلون “المرتدين” ولا يطبقون العقوبات البدنية او يرغمون النساء على لبس ثياب تسربلهن من الرأس الى اخمص القدم.
الجماعات التي تتهمها “داعش” بالارجاء (ومعظمها من الاسلاميين المحافظين) قد لا تكون على استعداد لتقبل هذه الصفة، فوفقاً لنصوصهم الدينية ايضاً قد يبدو الارجاء زندقة، ولكن ينبغي أن نقر بأن من يلجأ الى “تأجيل” فرض العقيدة الدينية ومعاقبة الخطاة والآثمين يكون ممارساً للارجاء في الواقع، ولكنها ممارسة لا تنبثق عن مبدأ بل عن البراغماتية.
لو جئنا الى الواقع لوجدنا ان هناك مئات الملايين من المسلمين في شتى انحاء العالم يطبقون الارجاء ايضاً رغم انهم لا يعرفون هذه الكلمة. بعض هؤلاء يركز على النص القرآني بدلاً من تطبيقات في الشريعة سادت في قرون سالفة ويتمسكون بالاية القرآنية المعروفة “لا اكراه في الدين”، وبعضهم الآخر واقع تحت تأثيرات الليبرالية الغربية، وهناك بعض ثالث متأثر بالصوفية، وهي الممارسة الباطنية للاسلام التي تركز على الصلاح الداخلي الطوعي في نفس الانسان بدلاً من التشبث الأصم بالقواعد والقوانين. هؤلاء تقول عنهم مقالة “دابق” (انهم جعلوا من الاسلام ادعاء وزعماً دون وجود حقيقي) وأنهم (يجب تذكيرهم بأن رحمة الله لا ينبغي التعلل بها لارتكاب المعاصي.)
بصفتي مسلماً على هذه الشاكلة أدعو كل أخ لي
في الدين يوافقني في هذا التوجه أن يضع على
صدره بفخر شارة الارجاء وإحياء المعرفة. لقد اضعنا هذا التوجه الديني المهم قبل اكثر من الف عام ولكننا نحتاج اليه اليوم اشد ما تكون الحاجة لوضع نهاية لحروبنا الدينية الداخلية واقامة نظام الحرية للجميع. لقد شعرت “داعش” بأن هذا التوجه هو الترياق المضاد لسمومها لذا راحت تسعى بكل جهدها الى تجريده من صفات القدسية الدينية، في حين انه في الواقع يجمع بين تقوى الله الحقيقية والنزعة الانسانية السليمة.. النزعة النابعة من الاعتراف بأن الله هو الوحيد القادر على الحكم بين البشر. ولكن على الجانب الآخر تقف وراء نزعة “داعش” المحمومة للاملاء والتحكم، التي تحاول تصويرها بأنها التجسيد الحقيقي لمعاني التقوى الصادقة، دوافع العجرفة والعنجهية.. عنجهية اصدار الاحكام على البشر الآخرين وادعاء سلطة التحكم بهم باسم الله.

 

شاركنا الخبر
احدث الاضافات
آخر الأخبار