– 1 – شهدت معظم الحواضر العراقية ألوانا من المجالس الأدبية والمنتديات التي تعبق بشذا الشعر وتمور بروح الظرف. هذا إلى جانب الاحتفالات الكبرى في المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية. وكل تلك الاحتفالات غنية بمناهجها، المتضمنة لرائع الخطب ورائق الأدب، الأمر الذي يترك بصماته واضحة على الرواد، ويجعلهم يتلذذون بما يسمعون، يتداولون فيما بينهم أحاديث الابتكار والابداع والقدرة على الاثراء والعطاء. ومن الطبيعي أن تكون حصة الموهوبين النابهين من أولئك المواظبين على الحضور في تلك المحافل والمجالس متميزة عن غيرهم، حيث أنهم الأقدر على الاستيعاب والاكتناز والإفادة من تلك التجارب، وسرعان ما تظهر الآثار جلية في ما يكتبون وينشئون من كلمات وقصائد.
– 2 –
ولا نذيع سراً اذا قلنا: بأن مدينة «النجف الأشرف» تعد الأعرق من المدن العراقية، في جعلها الشعر والأدب إحدى المفردات الحياتية الكبرى التي ينعم بها الناس عبر تحركهم اليومي في الشارع والسوق، فضلا عن منتديات العلم والأدب ومجالس العلماء والأدباء. انها باختصار: أكبر حاضنة للأدب، وهي النبع الثر المتدفق بألوان ممتعة منه في سائر الأغراض المعروفة، مع قدرة متميزة على إضفاء روح الدعابة والظرف وتمليح النتاج الأدبي بنحوٍ يجعله باهرا ساحرا…
– 3 –
ويكفينا في هذه المقالة الوجيزة أن نقف عند أنموذج واحد من خزين كبير من الملفات العامرة بالنفائس والروائع من القصائد والمقطعات. وحديثنا سيكون مقتصرا على الشيخ «هادي الخضري» الذي امتلك ناصية الشعر والظرف، وكان «وراقا» يكتب للناس أوراقهم الشرعية من وصايا وأوقاف، وينقل الكتب من مسوداتها الى البياض … ومعنى ذلك: انه رجل فقير يرتزق بكتابة تلك الأوراق! انه ليس من العلماء، ولا من ذوي الثراء، والجاه العريض، ولكنه وعاء مملوء بالظرف والأدب وسرعة البديهة.
– 4 –
استدعاه المرحوم العلامة السيد محمد القزويني إلى الحلة ليستنسخ (شرح التبصرة) الذي هو من مؤلفات أبيه علم الأعلام السيد القزويني رحمهما الله، وداهمه فصل الشتاء وعانى من البرد فطالب السيد القزويني بثياب تقيهِ من لسع البرد، فاقترح عليه السيد القزويني ان يكون الطلب عبر القوافي فقال: قد ألم البرد مني كل جارحة / حتى اللسان فأعياني عن الكلم / وأناملي ارتعشت مما أكابده / لا أستطيع بها قبضا على قلمي / أشكو لك البرد ياكهفي ويا أملي / قد سل صارمه ظلما لسفكِ دمي/ فقلت للنفس قري بعد ما اضطربت/ ففي حِمى (ابن معزِّ الدين) فاعتصمي / (ابو المعز) ومن ذل العزيز له / وفضله قد غدا نارا على علمِ/ فدم مع الدهر واسلم فيه وأَنه ومر/ فحد شانيك أضحى موضع القدمِ أقول: ابن معز الدين هو أبو المعز السيد محمد القزويني، الذي اقترح عليه ان يكون الطلب شعريا، وفيه ما لايخفى من الإثارة والتحفيز نحو تدبيج القوافي تمزيقا للركود والسكون الأدبي. ويلاحظ ان الشيخ هادي الخضري أدى المهمة خير أداء، بشعر سلس ينال الاعجاب… ونراه يخاطب شيخ الفقهاء المرجع الكبير اية الله العظمى المرحوم الشيخ محمد رضا آل ياسين قائلا:يا أيها العلم الفرد الذي افتخرت/ به الشريعة في سٍر وفي علنِ/ عقدت حبل ولائي في مودتكم / هيهات أن أتبرا من (أبي حسنِ) / وقد أجاد وأحسن فيما قال. وقد نظم قصيدة لتهنئة المرحوم الشيخ مرتضى آل كاشف الغطاء حين عوفي من مرضه، وجارى في قصيدته قصيدة المتنبي في سيف الدولة لما عوفي من مرضه فقال: يا ابن الكرام عداك السقم والألم/ ولا عراك – رعاك الخالق – السأم / اذا اشتكيت شكا الاسلام أجمعه/ وإن سلمت فكل الناس قد سلموا/ فدى لكفك كم أنعشت من رمق/ من العفاة وكم فيها يصان دم/ أبقاك باريك للراجين ملتجأ / وفي حمى بيتك العافون تعتصم/ من معشر شرعوا للناس نهج هدى/ لولا مناهجهم لم تهتد الأمم.وعلى هذا النسق العالي سار في قصيدته حتى الختام ..ان الحصيلة النهائية لِما خلفه خريجو المجالس والمنتديات الأدبية كبيرة وعظيمة تنحني لها الأجيال اكبارا وتقديرا. والمجالس الأدبية البغدادية اليوم تطمح أن تكون الامتداد الطبيعي لتلك المجالس والمنتديات الأدبية التي أفرزت الفحول وأذهلت العقول.