في العادة يعشق كل انسان عملاً معيناً، لانه قريب الى روحه، ويشعر بالراحة النفسية معه، وإنْ كان شاقاً او صعباً، ولهذا ما احببتُ عملاً في حياتي، على كثرة تنقلي بين المهن والحرف، مثل عملي في السنوات السبع الاخيرة، مشرفاً على ادارة محل فخم للكماليات النسائية في المنصور، فقد اكتشفتُ إن متعة العمل في كماليات النسوان المتحضرات على وجه الخصوص، تنسيك متاعب هذه المهنة، مثلما تنسيك مصاعب التعامل مع المرأة التي تنقنق حتى على الدرهم! الامر الذي احرجني اكثر من أي شيء آخر، هو طلب جاري (ابو ليلى) أن أتولى تدريس ولده، مادة اللغة العربية، ومما زاد الامر حراجة، إن ابا ليلى ليس جاري فقط، بل هو كذلك صاحب المحل، وهكذا تعرضتُ الى حالة من الارباك لا احسد عليها… نعم انا حاصل على شهادة بكالوريوس في اللغة العربية، ولكن شهادة تخرجي تعود الى عام 1970، ومنذ ذلك التاريخ لم أُدرس هذه المادة في ثانوية رسمية أو اهلية ، ولم أعد أميز بين (النعت والصفة)، ونسيت في معمعة الحياة كل شيء، بما في ذلك العرب والعربية… ثم ان ابن جارنا البالغ من العمر 24 سنة، معه شهادة اعدادية التجارة، وهيأ له والده الثري محلاً فخماً للملابس الرجالية خوفاً على شبابه من الكماليات النسائية، فلماذا هذه النزوة الغريبة لتعلم اللغة العربية؟ لا مهرب ولا سبيل الى الاعتذار، استسلمتُ لقدري، وعدتُ الى ما تبقى في مكتبي من كتب النحو، وحرصت بعد اختبار الولد، على ان لا اتعمق معه، فمعلوماته العامة لا تزيد على تلميذ متوسط الذكاء في الصف الخامس الابتدائي، ومن هنا اكتفيتُ ببعض الاساسيات كالاعداد والافعال الناقصة والحروف المشبهة بالفعل و.. ومع ذلك فقد ارهقني الولد كثيراً، لانه لا يستوعب المحاضرة، بل لا يستوعب المعلومة الواحدة الا بعد اعادتها عدة مرات!! استوقفني شيء ظريف حقاً، فما بينه وبين حروف الجر عداوة غريبة، لانني على مدى اسبوعين، وأنا (أعيد وأصقل) في شرح حروف الجر، وكيف تعمل مع الاسماء في حالة (المفرد والمثنى والاسماء الخمسة وجمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم)، وهو زمن يكفي لتعليم حمار وحشي كيفية العزف على البيانو، الا هذا الولد المدلل الذي يعاني من عقدة واضحة مع الحروف لم استطع فهم اسبابها!! طبعاً من باب الاكرام لمنزلة والده، كنت استعين بالصبر الجميل واعطيه المزيد من الامثلة والتمارين والواجبات البيتية، وفي احدى المحاضرات كلفته بكتابة (تعبير) لا يزيد على صفحة واحدة، وتركت له حرية اختيار الموضوع… وحين انجزه بعد ثلاثة ايام، فوجئتُ انه تصرف بالعبارة المشهورة (واشار اليه بالبنان) حيث اصبحت على يده (واشار اليه بالبنين!!)، وعندما نبهته، قال لي وهو يبتسم (استاد الله يخليك.. هذه اول مرة يشتغل عندي حرف الجر، وهم طلع غلط!) فضحكت حتى اغرورقت عيناي بالدمع، ولكن الذي فاجأني أكثر، هو إنني رأيت الولد بعد اسبوعين يطل من إحدى الفضائيات ويقدم نشرة اخبارية، فلم اتمالك نفسي.. ضحكت حتى اغرورقت عيناي بالدم حزناً على مستقبل الاعلام!!






