ليس هناك في عالم الثقافة والإبداع من وشيجة أكبر مما بين الأدب والصحافة، فمن الندرة أن يعيش الأدباء على الكتابة الإبداعية حصراً، بل ينبغي أن يوفروا مورداً ماليا ثابتاً لهم يعينهم على الاستمرار مبدعين، والعمل في الصحافة يعد هو الأقرب إلى الأديب من أية مهنة أخرى. يجمعهما أولاً احترام الكلمة، فضلاً عن أن كلاً منهما يصب في رافد الآخر، مثلا الإفادة من المحتوى الصحفي في كتابة النص الإبداعي، كما أن اكتساب الخبرة في تحرير المادة الصحفية يسهم في سبك النص، فضلا عن سلامة المفردات لغوياً. ما من صحيفة ناجحة لم تستقطب الأدباء لأن أدواتهم مكتملة، من حيث جاذبية الأسلوب، ورشاقة المفردة، وحسن اختيار العبارة. وبالرغم مما يقال من إن الصحافة تستنزف الكاتب أو تستهلكه، فإن خيارات المهن الأخرى ليست بالأفضل، فعدا عدم وجود قاسم مشترك بين أي مهنة أخرى والأدب، هناك أيضاً استهلاك الوقت والعقل والجسد في أمور بعيدة عن الأدب. خطرت لنا تلك الأفكار، بعدما قرأنا حواراً في” الشرق الأوسط ” اللندنية مع كونرادو زولواغا، أستاذ الأدب الكولومبي، المهتم بأدب مواطنه الكاتب العالمي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز الذي يسمى تحبباً غابو. زولواغا ألف كتباً عديدة عنه آخرها” لن تموت كليا” ودلالة العنوان واضحة تشير إلى خلود صاحب رواية “مائة عام من العزلة”، التي استغرق في كتابتها عشرين عاماً. تسأل المحاورة لويزا بوليدو مؤلف الكتاب الأخير عنه، بشأن تمثلات شخصية ماركيز، هل هو كصحفي أم روائي، أم صانع للأفلام، أم مفكر، يجيبها زولواغا بأنه لم يكن مفكراً، ولا يحبذ تحويل رواياته إلى أفلام، بل هو مغرم بما هو مقروء، فقد “كانت الصحافة والأدب وجهين لعملة واحدة بالنسبة إليه، فقد كان يستمتع بتقديم عمل روائي، ويستمتع بتأسيس صحيفة، ونشرة إخبارية، أو مؤسسة لتدريب الصحفيين؛ وقال مرة إن ذلك هو أفضل عمل في العالم”. زولواغا خصص القسم من كتابه الأخير لماركيز صحفياً، بحسب ما تسأله لويزا، الذي يجيبها بأن ماركيز كان يخصص وقتاً للصحافة أكثر مما يخصصه للأدب، وكان مؤمناً بأنه من الممكن تقديم عمل صحفي راقٍ بروح وجودة أدبية، ويكشف عن معلومة ربما لا يعرفها كثيرون مهتمون بأدب ماركيز، بأنه تم نشر الأعمال الصحفية لماركيز بخمسة أجزاء يبلغ عدد صفحاتها 3500 صفحة. من كل ذلك ندرك أحد أسرار عظمة غابو، كما ندرك ألا خشية للأديب من العمل في الصحافة، بل باستطاعته صناعة التفاعل بين الاثنين، وتقديم أعمال صحفية بمستوى راقٍ، فضلا عن رصانة وجدة منجزه الإبداعي.

باقر صاحب