حين نقرأ قصائد الشعراء الاغريق، او قصائد الرومان، يأخذنا عالم التاريخ الذي جاءت منه، فيضفي علينا الاعجاب والاحترام لما نقرأ. لكننا في أحيان كثيرة، نقول بعظمتها وينكسر شيءٌ فينا. كأن لا نصدق ما نرى. نحس بأن القصيدة أقل مما نريد وأقل مما نتوقع. نحن نقول بهذا ونتهم انفسنا او نتهم الترجمة او ان للناس أحاكماً أخرى وقراءات خاصة بهم لما يُكتب. اظن عبارتي “نتهم انفسنا” صحيحة وأن الاتهام في مكانه لأن قراءتنا قراءة غير سليمة. فالمسألة ليست قراءة كلمات ولكن قراءة ثقافة وراءها وقراءة افكار وتجارب. كان واجباً علينا إدراك تطور الرمز وبيئته التي هو فيها، اعني عموم النص حوله. هذا هو ما انتبهت له وأنا اقرأ قصائد لشاعر قديم هو كاتولوس، واحد من شعراء الحب عند الرومان. هذه القصيدة ليست قصيدة حب ومن غير القصائد التي عُرِفت عنه ورسمت عبر التاريخ شهرته. القصيدة عن زورق، زورقه هو. هكذا تبدأ القصيدة : ان زورقي الصغير الذي ترونه كان يوماً أسرع السفن وما خشبة طافية اعترضتهُ الا تغلّب عليها وهو الذي تغلب على ذوات المجاذيف والاشرعة. هذا الأمر لا تستطيع ان تنكره عليه سواحلُ الادرياتي العاصفة ولا جزر الكيكلاديس ولا الخليج الكئيب في هونتوس. وقبل أن يصبح زورقاً كان زورقي هذا خشب شجرة مورقة على قمة جبل كيتوروس وأنه أقلَّ سيّدَه عبر بحار عديدة مضطربة ، لا يبالي من أي جهة تجيء عليه الريح. كل هذا ولم تُقدَّم النذور يوماً لآلهة السواحل من أجله. ولكن ، هذه الأشياء مرتْ وزورقي الآن يقضي شيخوخته في عزلة بعيداً عن الموج ، بعيداً عن الفرح .. فهل هي قصيدة عن زورق ؟ زورق ممتاز قوي مقاوم للريح والموج مثلاً؟ أم أن الشاعر يتحدث عن نفسه؟ وهل نحن نرتفع بثراء وبقيمة القصيدة اذا قلنا هو تحدث عن نفسه لا عن الزورق؟ لا أظن ذلك صواباً. اذا اردنا ان نحتفل بالقصيدة، نقرأُها قراءة كاملة ونقول: هو تحدث عن الزورق وهو تحدث عن نفسه! القصيدة عن الاثنين. هو مجَّدَ الزورق وقال من أي شجر جبلي هو وكم قطع من بحار وقاوم رياحاً وأنه ظل يقلّ سيده بسلام ثم ، وفي نهاية القصيدة رثاهُ ورثا نفسه. فقد تحدث عن الزورق وكانت روحهُ، توأم الزورق، حاضرة. وشيخوخته، التي هي شيخوخة الزورق، حاضرة. الزورق شاخ أيضاً، أو هو شاخ كما شاخ الزورق. مجدُ القصيدة، لا في انها تحدثت عن حياة الزورق ومصيره ولكنها اكتملت واتسع مدى اهميتها حين تحدثت عن حياة الشاعر وقوته ومغامراته وما واجهه في الحياة، وكالزورق انتهى شيخاً. اسأل ثانية: لو تحدث الشاعر عن الزورق، أكانت للقصيدة أهمية حدَّ ان يحفظها التاريخ الانساني والادبي وتبقى محتفظة بروحها المؤثر حتى اليوم؟ اظنه حضور الروح الانساني، حضور مآلاتنا البشرية ونهايات اعمارنا بعد كدحنا وانتصارنا على العقبات والمخاطر او عذاباتنا في العيش، اقول بعد كل ذلك نقعد او نرقد شيوخاً متعبين في عزلة عن غمار الحياة التي كنا نجوب فيها .. ارجو ملاحظة ان ما احدثَ هذه الانعطافة التي صنعت مجد القصيدة هي كلمة “شيخوخته”. نعم كلمة واحدة احدثت هذه النقلة المهمة في مستوى القصيدة ودلالاتها. فإذا القصيدة تتنقل عبر الازمنة لتُترجَم الى لغات عصرنا ولأكتب الآن، انا الغريب البعيد، عنها.

ياسين طه حافظ





