عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي
عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي

سِفر الميثولوجيا بقلم: عزيز خيون

المقالات 14 أكتوبر 2015 0 269
سِفر الميثولوجيا  بقلم: عزيز خيون
+ = -

*

 الميثولوجيا وفي أبعد سطوحها هي المدونة الأزلية للذاكرة الجمعية، هي البئر الغنية التي يرحل في طبقاتها المبدعون، فنانون وأدباء وباحثون، ينقبوّن في منعرجات حيواتها الغامضة، يقلبّون سطورها، يصغون لانثيالات حكاياتها المشوّقة، شخصيّاتها، أحداثها، بحثاً عن ضفاف بكر لمخاطرتهم الفنيّة، مجرّبين، مشاكسين، ومجانين مخالفين، يجرون خلف دليل عطشهم لما هو سحريٌّ ولافت، وفي شتّى أنغام وإيقاعات العوالم الإبداعية، حلماً باصطياد منابت مغرية لرؤى ومعانٍ مغايرة لطموحاتهم الجمالية، وتوقاً لحافّات أمان، وأحضان وادعة لرفيق أرواحهم القلقة في اضطراب هذا الكون.. لذلك وفي كل مرّة يُسرجون خيول المخاطرة صوب مناجم كنوزها طمعاً بفرادتها وسحرها، لغمزات والتماعات لآلئها الأخاذة، طموحاً في الإجابة على أسئلة عصيّة تقلق حيرتهم، عن حلول ناجعة لإسكات ترجيع النداءات النهمة المستغيثة لهذا الواقع الحديدي، الواقع الهول!!، الذي ما انفكّ يُطبقُ بأشداقه الخرافية على أذن النهار والليل، يعوي بلجاجة وحشية لسحق وهرس وردة الجمال المسكرة لهذا الخلق الهائل الإعجاز، مرّة بإشعال الفتن، وأخرى بالنزاعات، وسابعة بالحصارات والحروب.
أحياناً يشدّنا طائر البحث والرغبة المسؤولة أن نقدّم نجوماً من إبداعات الميثولوجيا عبر العصور، وأحياناً أخرى تؤشر لنا ساحرات هواجسنا أن نقيم من بعض ثمارها الناضجة مرتكزات صلبة لاصطراخ مخيلتنا الجامحة في إبداع تجارب مسرحية، تخترق قشرة تاريخية وسجلات الماضي وجغرافية الثقافة، وتحلّق واثقة تمتطي رياح التجديد، خلاصاً ممّا هو مألوف وعادي، هروباً من سطوة النظريات المعيقة، والأنساق والمنظومات المراوحة القانعة، والحفر الرتيب في حقول الآخرين، ونجاةً من كل ما يُنشّز البهاء العظيم لموسيقى العقل والروح، وجلال المخيلّة الخلاقة، بل غوصاً بأعماق ما هو غير معلن، سرّي وغامض في مجاهيل الإثارة والدهشة.
هكذا أنظر – كمسرحي – لرحابة الفضاءات المتحركة لسحر وطلاسم الميثولوجيا ولا أعرفها فوتوغرافياً واستنساخاً جامداً، وتعاملاً مميتاً، للمحاولات التي تبحث وتحلم، إنما أثبتها حواراً ثقافياً وأزلياً، آنياً، وتناولاً ندّياً من أجل إنتاجها وبعثها من جديد، وإرسالها أثراً واعتماداً وجمالاً. وهناك عدد لا بأس به من كُتابنا العراقيين والعرب استفاد من فضاءات الميثولوجيا في استلهام بعض الأساطير لتشييد معمار فنّي لكتاباتهم المسرحية.
والأسطورة كما هو معروف لون إبداعي جديد في عالم المعرفة الإنسانية أنتجته دافعية خيال الإنسان في الأزمان القديمة التي سبقت التاريخ، وهي إطار واسع يحوي داخله كما أسلفت أفكار البشرية في الماضي، ذاكرتها، حلمها، خيالها الثر، أسئلتها، قلقها وحكمتها، إضافة إلى أنها تتضمّن معاني وأفكار عميقة من الناحية الفلسفية والجمالية والدرامية. وللأسطورة أيضاً قيمة وأهمية كبيرة جداً لما تختزنه من أفكار وقصص وأخيلة، جعلها تشكلّ مصدراً لا ينضب لشعراء التراجيديا في العصر الإغريقي، حيث تناول هؤلاء الشعراء عدداً من الأساطير لإبداع أعمال درامية مهمة تتحدث عن بطش الآلهة وقوتها وجبروتها، وتحكمهّا بعناصر الطبيعة ومصادرها والبشر من جانب، وعن ضعف الكائن البشري وسقوطه التراجيدي، على الرغم من كونه بطلاً ومن صنع الآلهة نفسها من الجانب الثاني.
وما يُميّز الأسطورة أنها تتعرّض لمواضيع وأسئلة أزلية في الكون، عن الحياة والموت، عن الخلود، عن الحب والحرب، عن الأخلاق والعاطفة، عن العدل، وعن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذه الأسئلة والموضوعات تقريباً هي نفسها في كل الأزمان والعصور، باستثناء بعض التبدلات البسيطة التي تفرضها الأمكنة والظروف، والتي تظهر في زمنٍ دون آخر، لكن من حيث الجوهر هي واحدة.
ونتيجة للمرونة التي تتحلّى بها الأسطورة، وإمكاناتها الشمولية في أنها تصلح لكل زمان، وأنها مستعدة لأن تمنح نفسها بطرق مختلفة، وحتى في المكان والزمان نفسه، نرى أن الشعراء في العصر الإغريقي تناولوها بحرية، باتجاهات واقتراحات جمالية متنوعة، أي أنهم لم ينظروا إليها بشيء من التقديس، بل أجروا عليها الكثير من التحوير، وكان كل شاعر يقرأها بواعز وفلسفة ورؤية مختلفة، انطلاقاً من تجربته، خبرته والحالة الوجدانية التي يعيشها، للموضوع الذي يريد طرحه، وتبعاً للرسالة الجمالية التي يرغب أن يوصلها، فالشاعر هنا يحذف ويضيف إليها ما يراه ويعتقد أنه يناسب ويخدم فكره ونتاجه ودوافعه وتوجهاته الفنية والاجتماعية والسياسية، ويدعم تجربته الدرامية. بمعنى أن شعراء التراجيديا أولئك لم يتناولوا الأساطير لذاتها، أي لمجرّد بعثها وعرضها كما هي على الملأ، بل كانوا يلوذون بها جسراً لعرض أفكارهم ورسائلهم التنويرية، وكانوا أيضاً مولعين بقراءة الأسطورة الواحدة قراءات عدّة ومن زوايا متباينة، وكما ذكرت يأتي هذا للمرونة ولما تتميّز به الأسطورة من غنى، وحصل هذا الأمر مع أكثر من أسطورة تعاقب على كتابتها عمالقة المسرح الإغريقي، وكانت المحصلة الإبداعية أن كل واحد من هؤلاء الشعراء فاز بنتيجة مميزّة، واستطاع أن يقدّم فهماً وفلسفة مختلفة.
وذات الشيء حدث وفي زمنٍ آخر مع أسطورة «اليكترا» لثلاثة من أدباء القرن العشرين وهم جان جيرودو ، يوجين أونيل ، وجان بول سارتر، وتكرّر أيضاً في أسطورة «أنتيجونا»، التي تناولها كل من سوفوكليس في الزمن البعيد، وجان كوكتو وجان أنوي في العصر الحديث.. وبالتالي فإن من أهم الأسباب التي تدفع كتاّب العصر الحاضر لأن يستلهموا الأسطورة، أنهم يرون فيها وكما أسلفت مادة تغتني بها إبداعاتهم، تبعدهم عما هو طبيعي ومألوف، لما تتميّز به من قدرة فائقة على الإيحاء وثراء الخيال، وإمكانية كبيرة على الاستبطان وتجاوز الأطر المحليّة الضيقة، من خلال بعدها العالمي، واستطاعة المبدع أن يطوّعها لتصبح جاهزة للتعبير عن هموم الحياة المعاصرة، وعن السؤال المحيّر لإدراك هذا الوجود.. لهذا السبب هاجر عدد من الكتّاب المعاصرين الأجانب والعرب صوب عالم الأسطورة، هروباً من سجن القوالب الجاهزة وعبودية الأشكال الدرامية التقليدية المحنطّة. إضافة إلى أن الأسطورة تسمح لمن يُحاورها أن يتخذ منها قناعاً يتخفى خلفها ليقدّم المعنى المراد، دون التعبير عنه بطريقة مفضوحة، تؤثر على جلال العملية الإبداعية وسريتّها، لدرجة أصبحت الأسطورة في الحاضر بئراً بعيد الغور، ينهل منه المسرحي والموسيقي والشاعر والروائي والرسام والنحات، لما توفرّه من إمكانات تعبيرية مفتوحة.
أما إذا كان الكاتب الدرامي غير قادر على توظيف الأسطورة والخروج بها ومنها بفهم جديد، بل اكتفى بدور المحاكي لها، فالعيب ليس بالأسطورة وإنما بالكاتب نفسه، وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر النتائج والإضافات المهمة التي خرج بها كتاب قدامى ومعاصرون، أمثال أسخيلوس، سوفوكليس، يوروبيدس، جان بول سارتر، جان جيرودو، جان أنوي، جان كوكتو، يوجين أونيل، توفيق الحكيم، عادل كاظم، فؤاد التكرلي، وبدر شاكر السياب، والقائمة تطول وتطول.
وقد يقول قائل أنه ورغم كل التحويرات والإضافات وتعدّد القراءات للأساطير، أو للأسطورة الواحدة، يبقى التوجه العام واحدا. نعم هذا صحيح ، لكن العزف الداخلي عزف متغيرّ وحيوي، فيه متعة الاكتشاف والإضافة والتجديد، أما على مستوى حياة النص على المنصة المسرحية وما تفرضه الضرورة الفنية في اشتراطات على المقدّم، الممثل، وهو يتصدى لنحت عوالم وشخصيات النص الطالع من الأسطورة، أن يكون بمستوى التجربة من حيث نضج استعداداته الجسدية والصوتية والروحية والثقافية، وجهوزيته لركوب المخاطرة الإبداعية، وفي حالة حصول العكس وكانت التجربة في غير توقعها المنتظر، فالخلل هنا ليس بالأسطورة وكاتبها، وإنما الممثل الذي يُقدم على تجربة كهذه وهو غير متسلح بما ينجيه ويضيء فضاءه، واللازم أن يكون جاهزاً للعب أيّة شخصية فاعلة ومؤثرة يُطلب منه إحياؤها أيّاً كانت صعوبتها، وهذا هو دوره في المنصّة التي اختارها لقول وفعل الحقيقة.
ونفس الشيء ينطبق على قائد التجربة وصاحب الرؤية الفنية، المخرج، الذي ينبري لتشييد تجربة مسرحية من خلال أُسطورة صعبة الموضوعة والمراس، وأيضاً عليه أن يكون متمكناً من أدواته الذاتية والموضوعية، ويبتعد عن مركب السهولة والتسامح والعجالة، فالعبرة ليست بإنجاز شؤون التجربة، إنما العبرة بالانجاز والتجويد الذي يتحقّق في هذه التجربة، لأن الأسطورة وكما هو معروف تحتاج إلى إمكانيات إنتاجية مقنعة توفر لها شرطية الإقناع والبهاء، إمكانات تكنيكية، مادية وبشرية.
أما العروض المسرحية التي تتخذ من الأسطورة مادة لها في الكتابة والتجسيد، وتقدّم في هذا المسرح الفقير أو تلك الجامعة والمعهد، وضمن ظروفها الصعبة والمتطلبات الفقيرة لإنتاجها، فلا يمكن أبداً أن نجعل منها مقياساً نُفاضل به بينها وبين التجارب التي تهيأت لها استعدادات إنتاجية معافاة وعلى الصعد كافة، إنما يكفي تلك التجارب فقط هذا القصد البريء، هذا الجهد الطيب والمخلص لكادر العمل والمشرفين عليه.
ممّا تقدّم أؤكد مرة أُخرى على أن الأسطورة شكل فني، مهم وغني بالمعطيات الفكرية والفلسفية والفنية، علينا أن نخوض غماره في المسرح والشعر والموسيقى والأوبرا، والسينما والتلفزيون والفنون التشكيلية، وأن نستفيد من طاقات هذا الشكل، بشرط توفر العناصر المشجعة لنجاح إنتاجه، المادية والبشرية، لا سيمّا ونحن نملك العديد من الأساطير التي لو توفرّت لها ظروف طبيعية في الإنتاج والتجسيد، فانه من الممكن جداً أن تكون أرضية مهمة لصناعة عروض مسرحية مشوّقة، يُقبل عليها الجمهور بكامل الرغبة.
لذلك أرى أن إحياء أساطير وادي الرافدين في المسرح هو إحياء لنا، لخصوصيتنا في بناء لوننا ونوعنا، صوتنا المميّز، في تأسيس رؤيتنا المسرحية، وإقامة حوار لا ينقطع مع الآخر صنونا ونظيرنا، ومساهمتنا كأمة مبدعة في إضاءة عتمة ودهاليز الحاضر… الآن ، اللحظة، والإمساك بأشرعة المستقبل، والإقامة أبداً في فراديس السؤال.

*مؤسس ورئيس محترف بغداد المسرحي

 

شاركنا الخبر
احدث الاضافات
آخر الأخبار