في خضم الارهاب اليومي في شوارع بغداد والاحياء الدمشقية والضاحية البيروتية ، جاء ليل الجمعة الاسود في باريس ليضاهي بخطورته صباح 11 ايلول الاميركي. تلك الصبيحة التي لاتنسى حدثت فجأة..هذه تأتي في ذروة استنفار وحرب عالمية مستمرة على الارهاب غيرت انماط التعاطي الدولي وبدلت وجه هذا الشرق. سبع هجمات متزامنة ومتقنة في قلب العاصمة الفرنسية، اعقبت تفجير طائرة روسية بركابها في الجو.
هذه الارتكابات الفظيعة مثلها مثل اسقاط البرجين في نيويورك، لايخطط لها إلا عقل جهنمي يحتاج فقط الى منفذين مغسولي الدماغ ومجردين من الاحساس ومن العقل. تغير اسم المتهم لكن النتيجة واحدة: دم كثير يثير الصدمة والذهول والتضامن وينمي التعصب الوطني لابل العنصري ايضا، يليه اجراءات غير مسبوقة من الدولة المستهدفة والحلفاء تمهد لتغيير المعادلات في ارض الآخرين.
انه ارهاب مدان، ولايمكن القبول بتبريراته بالانتساب الى القضايا الكبرى او الدفاع عنها. والمسوغات التي تساق لـ»فهم» هذه الظاهرة واحالة استفحالها الى السياسات الغربية ازاء القضايا العربية والاسلامية آن لها ان تتوقف لانها صارت تتجاوز الفهم الى التبرير غير المقبول والمدان ايضا. صحيح ان الاستعمار الغربي بنوعيه الجديد والقديم جلب الى المنطقة الكثير من الويلات والمصائب في القرن الماضي التي مازلنا نعيش ارتداداتها حتى الآن. لكن مقاومة تلك السياسات طوال العقود السابقة كانت مقاومة تلتزم الحدود الدنيا المقبولة اخلاقيا ولم تنزلق الى الاجرام الحالي الذي دمر تلك القضايا وشوه عدالتها.
«ارهابيونا» الحاليون و»انتصارهم» لقضيانا صاروا اكبر مصيبة حلت علينا وعلى مجتمعاتنا. ومصيبتنا لم تتوقف عند «الداعشيين» و»القاعديين» «النصراويين» ومن لف لفهم من التكفيريين، بل بانصاف المثقفين «الفضائيين» الذين يبررون ارهاب هؤلاء باحالته حينا الى السياسة الغربية واحيانا الى التهميش من خلفيات عابقة بالحقد والتعصب الطائفي والمذهبي.
مقاومة السياسة الغربية لها ألف طريقة وطريقة وليس منها حرق الذات وتدمير القضايا وتفجير الأبرياء. هذه الطرق تقلب المعادلة فنصير مجرمين ومصاصي الدماء وهواة تدمير٬ لا حملة قضايا عادلة ندافع عنها بشرف وسوية. كان يتعين تصعيد النقد الذاتي العربي الإسلامي لا التبرير وليس اظهار القدرات الخارقة في نقد الآخر، لان الآخر ينقد نفسه بقوة وقسوة وقدرة اكثر منا٬ فيما نحن نواصل التشاكي وادعاء البراءة وتبرير الارهاب بما يفقدنا ويفقد قضايانا القدرة على تحويل العدالة التي نحوزها الى فعل ايجابي.
هل فات الوقت لفعل ذلك في ظل ما آلت اليه امورنا؟ هل يستجيب الغرب لدعائنا ويرحم حالنا ؟ هل يسكت قادته على الجرح الاليم بعد المقتلة التي اصابت شعوبهم من بين ظهرانينا وباسم قضايانا وديننا؟ وهل من وعي داخلي في مجتمعاتنا قادر على خلق بنية صحيحة فكريا واعلاميا وثقافيا وسياسيا قادر على التصدي لهذه الآفة بكل تجلياتها المرضية؟.
الغضب الاوروبي في اوجه بعد المجزرة الباريسية، والادانة الدولية عارمة والالتفاف حول فرنسا كبير، والمجتمعات الغربية في اقصى استنفارها الوطني، والنزعة الشوفينية في اقصى تجلياتها اليمنية المتطرفة لابل الفاشية ، والاساطيل الاجنبية بطائراتها والصواريخ جاهزة للمعركة الكبرى .. لكن هل ستخاض هذه الحرب كما خيضت سابقتها على «القاعدة» التي كانت احد ابرز اسم ولادة «داعش» واخوانه التكفيريين؟.
هذه الحرب لن تنجح اذا كان كل طرف فيها ينظر اليها من زاوية مصالحه الخاصة كما يحصل حاليا، ولايمكن القضاء على الارهاب بالحرب وحدها من دون معالجة اسبابه الاخرى، ولا اي حرب في هذه المنطقة ان تصل الى مبتغاها في اسئصال الارهاب من مهده من دون ان تترافق بتسويات سياسية للأزمات المشرقية المستعصية تحقق التوازن بين فرقائها من العراق الى سوريا واليمن ولبنان .. والاهم في فلسطين المنسية. وحتى تستقيم التسويات في مجتمعاتنا التي نخرتها الطائفية والاثنية لا بد من ارساء الديمقراطية .
وهنا بيت القصيد : كيف يؤسس لنخب ترغب فعلا في الانعتاق من التوتاليتاريات السياسية والدينية والتأسيس لديمقراطيات، ونواتها الآن محاصرة حتى الاختناق من تطرف ديني ترتفع حرارة تعصبه على نار القصف الخارجي، ومن غرب مؤثر وفاعل صار رأيه العام معبأ لنبذهم بالجملة على الهوية؟ وكيف لغرب ان يعالج بالمراهم الخارجية آفة مستعصية اسهم في تفشيها وتعميقها حتى وصلت الى العظام؟ وكيف لهذا الشرق الطريح ان يعالج نفسه من السم الذي استعمله كمخدر لشعوبه حتى التلاشي والجنون؟.
كاتب وصحفي لبناني*