«الرصاصة تقولُ الحقيقة دائماً» عبارةٌ صادمة لا أعرفُ قائلها لكنها منذ سنواتٍ طويلة ترنُّ في رأسي مثلَ ناقوسٍ قديم..حفظتها كما أحفظ مقطعاً مُلفتاً من نشيدٍ أثير..وبرغم غرابة هذهِ العبارة لكنني آمنتُ بها مُرغماً وبِتُّ أرددها مع نفسي دائماً من حيث لا أدري..
نعرفُ جميعاً أنَّ الرصاصة لم تكذبْ علينا من قبل..لا لبْسَ ولا ريبة أبداً فيما تخبرنا بهِ فلا تفكروا إطلاقا أن تطعنوا اليومَ في صِدقها الصارخ ولاتشككوا لحظة في صراحتها الفاضحة..ولأنها تُملي علينا قسراً قوانينَ وجودها التعسفي وتفرضُ علينا منطقها الذي تُسقطهُ فوق الواقع بقوةِ حضورها المُلزم فهي تستحقُ منا التقديرَ والاحترام..لذا من المنطقي جداً أن نُهيأ أنفسنا دائماً لتقبل منطقِ الرصاصة!.ما عسانا أن نقول أو نفعل ونحن نبصرُ كيف أصبح بإمكانِ هذا المنطق الغريب في هذهِ الأيام أن يزاحمَ الأكتافَ ليصنعَ لهُ وجوداً قوياً من رحمِ العدم؟لكن يا لهُ من منطقٍ مرعبٍ بالفعل..أنَّ وجودَ القوةِ هو الذي باتَ يفرضُ على الأرضِ قوة الوجود..والأسوأ من ذلك أنَّ مَنْ لا قوة لهُ لا وجودَ لهُ.. أدركُ تماماً حجم الرعب الذي ربما تتركهُ فينا تلك الحقيقة الصادمة لكن من هذا الواقع ذاتهِ الذي يمكنُ لرصاصةِ الحقيقة أن تُخبرنا بهِ بوسعنا أن نبدأ دائماً دون أن نتكبدَ كثيراً عناءَ البحثِ عن الخطوةِ الأولى أو نخشى على أنفسنا بعد ذلك ضياع طريق العودة..وأكادُ أجزمُ أنَّ أحداً لن يُحارَ أبداً بالبحث فأينما تلفتنا اليوم في بلداننا سنجدُ لنا حتماً رصاصة مارقة تُخبرنا بالحقيقة كما هي رغم بشاعتها وتسرفُ لنا فوراً بالتفاصيل.
لنجربَ أن ننصتَ مثلاً لما يمكنُ أن تقولهُ لنا رصاصة أفريقيا:إذ لم يكن تواجد تنظيم «داعش» في شمالِ أفريقيا وبهذا الزخم الكبير من بابِ الصدفة أبداً..هو تنظيمٌ مفخخ عابرٌ للقارات..لم يعدْ ثمة شكٌّ في ذلك.. ومن هناك بدأتْ قبل بضعةِ سنواتٍ فقط حُمى الولاءِ و البراء على قدمٍ وساق من أجل إعادة تنظيم قوائم وسجلات الأعداءِ والحلفاء للوصول إلى تصفية حسابات نهائية..وحتى هذا اليوم لا تزالُ ثمة غربلة تحالفاتٍ أخيرة لِما تبقى من قواتٍ متشرذمة..القسمُ الأكبر منها حَسمتْ أمرها وبايعتْ تنظيم داعش بالفعل وانضوتْ تحت لوائهِ وبعضها الآخر لا تزالُ حائرة في خياراتها لأنها تشعرُ أنها واقعة تحت تأثير ضغوط متقاربة في درجة قوتها ما بين العمل بمفردها أو إلقاء السلاح والبدء بمفاوضات مع الحكومة كما فعلتْ بعض الفصائل المسلحة لكنَّ أمراً ملتبساً كهذا لن يطولَ كثيراً إذ لا بدَّ أن يفضي أخر الأمر إلى حسمٍ نهائي في المواقف على ساحات المعارك مع أن نتيجة ذلك تبدو واحدة سلفاً لأنها لن تضيفَ لتلك البلاد إلا مزيداً من الضياع والتمزق والضعف.
ثمة في ليبيا اليوم الكثير من الجماعات المتطرفة لأنَّ تنظيم «داعش» لا يزالُ يحلمُ أن يعلنَ من هناك عن دولةٍ داعشية كبرى تكون ليبيا قاعدة ارتكازها في عموم قارة أفريقيا كلها..ولو تسنى لهُ إزاحة جميع المعرقلات التي لا تزالُ تقفُ في طريق تحقيق ذلك الحلم فستكون أفريقيا بالفعل أكبر وجودٍ سرطاني إرهابي في العالم كله.
فمنذ أن بايعَ زعيم تنظيم أنصار الشريعة أبو الحبيب عبد الله الليبي تنظيم «داعش» حتى سارعتْ بقية التنظيمات للمبايعة أيضاً ليس في ليبيا وحدها بل في سائر دول شمال أفريقيا. تأملوا إن شئتَم مثلاً إعلان اتحاد جماعة «أجناد الساحل» مع «سرية لواء الفرقان» بقيادة ما يسمى بأبي الحارث التيندوفي بين حدود موريتانيا والجزائر وخروجها تحت مسمى جديد هو جماعة «أحفاد طارق بن زياد» ومبايعتها النهائية لتنظيم «داعش»..هذا التحالف الذي كان من أهم نتائجهِ سقوط مدن ليبية كبرى تحت سيطرة التنظيم انطلاقاً من «سرت» معقله المركزي.
هذا التخلقُ السرطاني المريب بإمكانهِ أن يرسمَ لنا بوضوح حقيقة ما يحصلُ هناك ويعطينا أيضاً تفسيراً مقنعاً لإصرار تنظيم «داعش» على زرع إمبراطوريةِ وحوشٍ بربرية يكون مركزها في ليبيا تحديداً.. يكفي هنا أن نُذكّرَ بأنَّ منفذَي هجوم متحف باردو الفرنسي وهما أبو زكريا التونسي وأبو أنس التونسي كانا في ليبيا وتدربا فيها وانطلقا منها.
أما في تونس والجزائر فهناك كتيبة عقبة بن نافع وطلائع جيش الخلافة وجند الخلافة والجماعة السلفية الجهادية وغيرها من المجموعات المتطرفة. وواضحٌ جداً أنَّ إصرار هذا التنظيم على هذا الزحف الأفريقي الملفت وتكثيف وجودهِ هناك بهذهِ التوزيعة المنسقة يكشفُ حجم طموحاته في بسط المزيد من نفوذهِ على مساحاتٍ مترامية الأطراف من أفريقيا كلها لكن وجوداً قوياً كهذا لهُ عدة أسباب لعلَّ في مقدمتها أنهُ يطمحُ أن يُقرّبَ المسافات المتباعدة بين جميع أهدافهِ المهمة ليتمكنَ من انتصافها كلها.. بمعنى أن وجوداً ستراتيجياً كبيراً كهذا سيبقيهِ على مقربةٍ معقولة من ثلاثِ قارات بوقتٍ واحد هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.. بالإضافة إلى أنَّ سيطرتهُ على تلك الرقعة المفككة أمنياً سيمنحهُ ميزة إضافية وهي قدرتهُ على ضمانِ أن يخيط أهدافهُ ببعضها باستمرار ليشكلَ منها بيسرٍ جبهة إمدادٍ طويلة ومتصلة مع بعضها ما يعني بقاءه كمصدر قلقٍ أوروبي دائم وبفاعليةِ حضورٍ متجددة.فيما يخص الجماعات المتطرفة في أفريقيا تظل للأراضي الليبية خصوصيتها المتفردة كحاضنة نموذجية، اذ يكفينا أن نلقيَ نظرة سريعة لما يحدثُ هناك كي نفهم فوراً حجم الشِراك الملتبسة الذي وقعت فيها البلاد بعد إسقاط القذافي..تقاطعاتٌ قبلية صارخة ذات طابع ثأري متخلف وتناحرٌ على تقاسم المدن لا يزالُ على أشدهِ وتشتت في الولاءات فيما يخص التحالفات الحزبية الناشئة من مرحلة ما بعد التغيير.
والغريب في الأمر أنَّ جميعَ أمراءِ الحرب في ليبيا المختلفين في كلِّ شيء متفقون فقط على كلمةٍ واحدة وهي الحرب..لأنهم يراهنون جميعاً على استمرار القتال وديمومتهِ حتى فناء كل الأطراف الأخرى لإدراكهم أنَّ أيَّ نصرٍ لمجموعةٍ قتالية متحاربة لا يضمنُ نسفَ بقية المنافسين لها لن يسمى نصراً ناجزاً أبداً لذا لا يزالُ خيارُ الحرب حتى النهاية هو أقوى من كلِّ خياراتِ السلام والنتيجة تبدو وكأنها محسومة سلفاً بكل الأحوال طالما كانت جميع تلك المجموعات تتبعُ ذاتَ التنظيمات المتشددة.
أما حمى الضغوط الدولية الخارجية فلم تضفْ إلى الوضع الليبي على وجهِ الخصوص إلا مزيداً من الخيوط المتشابكة التي طفحتْ إلى السطح بأبشع تجلياتها مع تصاعد مشاعر اليأس والإحباط الشعبي بشكلٍ متوازٍ مع تصاعد العنف على كامل الأراضي الليبية وكل ذلك سيجعلُ من احتمالِ رسم خارطةِ نفوذٍ جديدة أمراً محتوماً وربما سيفضي الأمرُ أخيراً إلى ثلاثِ دويلاتٍ ضعيفة داخل الدولة الليبية الواحدة..احتمالٌ ربما لا يزالُ الآن بعيداً لكنهُ سيكون الأقرب حظاً لو بقيت ليبيا بؤرة مركزية كبرى لإرهاب «داعش» الأفريقي..ولعلها بالفعل سخرية أقدارٍ مريرة أنَّ ليبيا البلد الذي توحدَ في ظلِّ الاستعمار الإيطالي قبل قرنٍ من الزمان يمكن أن يُقسّمَ اليوم إلى دويلاتٍ في زمنِ الحرية الزائف!.
لا صوت يعلو أبداً على صوتِ الرصاص..وبرغم كل المحاولات المضنية لإخراسها يظلُّ صوتها البشع هو الأعلى دوياً بين الأصوات..ويظلُّ لها أيضاً تلك القدرة المتفردة التي تمكنها أن تلفتَ إليها الانتباه وتفرضَ هيبتها المتجددة بقوةِ الرعب الذي تقذفهُ في القلوب خاصة وهي لا تفتأ تصرخُ بعنفٍ أنَّ للواقع دائماً حضوراً صادماً آخر يقفُ في ضفةٍ مقابلة لكلِّ مَن يحاولُ أن يفسرَ هذا الواقع بقولبةٍ سياسية جاهزة أو يتصدى لتفكيكِ بعض من أسرارهِ متسلحاً بتنظيراتٍ أيديولوجية أو تكهناتٍ عائمة..هذا نزرٌ يسيرٌ مما تسنى للرصاصةِ الأفريقية أن تخبرنا بهِ ..فها هيَ قد رسمتْ لنا صورةً قاتمة وصفتْ بها بعضاً من حقيقةِ ما يحدثُ هناك..
ألم نقلْ منذ البداية أنَّ الرصاصة تقولُ الحقيقة دائماً؟.
نعرفُ جميعاً أنَّ الرصاصة لم تكذبْ علينا من قبل..لا لبْسَ ولا ريبة أبداً فيما تخبرنا بهِ فلا تفكروا إطلاقا أن تطعنوا اليومَ في صِدقها الصارخ ولاتشككوا لحظة في صراحتها الفاضحة..ولأنها تُملي علينا قسراً قوانينَ وجودها التعسفي وتفرضُ علينا منطقها الذي تُسقطهُ فوق الواقع بقوةِ حضورها المُلزم فهي تستحقُ منا التقديرَ والاحترام..لذا من المنطقي جداً أن نُهيأ أنفسنا دائماً لتقبل منطقِ الرصاصة!.ما عسانا أن نقول أو نفعل ونحن نبصرُ كيف أصبح بإمكانِ هذا المنطق الغريب في هذهِ الأيام أن يزاحمَ الأكتافَ ليصنعَ لهُ وجوداً قوياً من رحمِ العدم؟لكن يا لهُ من منطقٍ مرعبٍ بالفعل..أنَّ وجودَ القوةِ هو الذي باتَ يفرضُ على الأرضِ قوة الوجود..والأسوأ من ذلك أنَّ مَنْ لا قوة لهُ لا وجودَ لهُ.. أدركُ تماماً حجم الرعب الذي ربما تتركهُ فينا تلك الحقيقة الصادمة لكن من هذا الواقع ذاتهِ الذي يمكنُ لرصاصةِ الحقيقة أن تُخبرنا بهِ بوسعنا أن نبدأ دائماً دون أن نتكبدَ كثيراً عناءَ البحثِ عن الخطوةِ الأولى أو نخشى على أنفسنا بعد ذلك ضياع طريق العودة..وأكادُ أجزمُ أنَّ أحداً لن يُحارَ أبداً بالبحث فأينما تلفتنا اليوم في بلداننا سنجدُ لنا حتماً رصاصة مارقة تُخبرنا بالحقيقة كما هي رغم بشاعتها وتسرفُ لنا فوراً بالتفاصيل.
لنجربَ أن ننصتَ مثلاً لما يمكنُ أن تقولهُ لنا رصاصة أفريقيا:إذ لم يكن تواجد تنظيم «داعش» في شمالِ أفريقيا وبهذا الزخم الكبير من بابِ الصدفة أبداً..هو تنظيمٌ مفخخ عابرٌ للقارات..لم يعدْ ثمة شكٌّ في ذلك.. ومن هناك بدأتْ قبل بضعةِ سنواتٍ فقط حُمى الولاءِ و البراء على قدمٍ وساق من أجل إعادة تنظيم قوائم وسجلات الأعداءِ والحلفاء للوصول إلى تصفية حسابات نهائية..وحتى هذا اليوم لا تزالُ ثمة غربلة تحالفاتٍ أخيرة لِما تبقى من قواتٍ متشرذمة..القسمُ الأكبر منها حَسمتْ أمرها وبايعتْ تنظيم داعش بالفعل وانضوتْ تحت لوائهِ وبعضها الآخر لا تزالُ حائرة في خياراتها لأنها تشعرُ أنها واقعة تحت تأثير ضغوط متقاربة في درجة قوتها ما بين العمل بمفردها أو إلقاء السلاح والبدء بمفاوضات مع الحكومة كما فعلتْ بعض الفصائل المسلحة لكنَّ أمراً ملتبساً كهذا لن يطولَ كثيراً إذ لا بدَّ أن يفضي أخر الأمر إلى حسمٍ نهائي في المواقف على ساحات المعارك مع أن نتيجة ذلك تبدو واحدة سلفاً لأنها لن تضيفَ لتلك البلاد إلا مزيداً من الضياع والتمزق والضعف.
ثمة في ليبيا اليوم الكثير من الجماعات المتطرفة لأنَّ تنظيم «داعش» لا يزالُ يحلمُ أن يعلنَ من هناك عن دولةٍ داعشية كبرى تكون ليبيا قاعدة ارتكازها في عموم قارة أفريقيا كلها..ولو تسنى لهُ إزاحة جميع المعرقلات التي لا تزالُ تقفُ في طريق تحقيق ذلك الحلم فستكون أفريقيا بالفعل أكبر وجودٍ سرطاني إرهابي في العالم كله.
فمنذ أن بايعَ زعيم تنظيم أنصار الشريعة أبو الحبيب عبد الله الليبي تنظيم «داعش» حتى سارعتْ بقية التنظيمات للمبايعة أيضاً ليس في ليبيا وحدها بل في سائر دول شمال أفريقيا. تأملوا إن شئتَم مثلاً إعلان اتحاد جماعة «أجناد الساحل» مع «سرية لواء الفرقان» بقيادة ما يسمى بأبي الحارث التيندوفي بين حدود موريتانيا والجزائر وخروجها تحت مسمى جديد هو جماعة «أحفاد طارق بن زياد» ومبايعتها النهائية لتنظيم «داعش»..هذا التحالف الذي كان من أهم نتائجهِ سقوط مدن ليبية كبرى تحت سيطرة التنظيم انطلاقاً من «سرت» معقله المركزي.
هذا التخلقُ السرطاني المريب بإمكانهِ أن يرسمَ لنا بوضوح حقيقة ما يحصلُ هناك ويعطينا أيضاً تفسيراً مقنعاً لإصرار تنظيم «داعش» على زرع إمبراطوريةِ وحوشٍ بربرية يكون مركزها في ليبيا تحديداً.. يكفي هنا أن نُذكّرَ بأنَّ منفذَي هجوم متحف باردو الفرنسي وهما أبو زكريا التونسي وأبو أنس التونسي كانا في ليبيا وتدربا فيها وانطلقا منها.
أما في تونس والجزائر فهناك كتيبة عقبة بن نافع وطلائع جيش الخلافة وجند الخلافة والجماعة السلفية الجهادية وغيرها من المجموعات المتطرفة. وواضحٌ جداً أنَّ إصرار هذا التنظيم على هذا الزحف الأفريقي الملفت وتكثيف وجودهِ هناك بهذهِ التوزيعة المنسقة يكشفُ حجم طموحاته في بسط المزيد من نفوذهِ على مساحاتٍ مترامية الأطراف من أفريقيا كلها لكن وجوداً قوياً كهذا لهُ عدة أسباب لعلَّ في مقدمتها أنهُ يطمحُ أن يُقرّبَ المسافات المتباعدة بين جميع أهدافهِ المهمة ليتمكنَ من انتصافها كلها.. بمعنى أن وجوداً ستراتيجياً كبيراً كهذا سيبقيهِ على مقربةٍ معقولة من ثلاثِ قارات بوقتٍ واحد هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.. بالإضافة إلى أنَّ سيطرتهُ على تلك الرقعة المفككة أمنياً سيمنحهُ ميزة إضافية وهي قدرتهُ على ضمانِ أن يخيط أهدافهُ ببعضها باستمرار ليشكلَ منها بيسرٍ جبهة إمدادٍ طويلة ومتصلة مع بعضها ما يعني بقاءه كمصدر قلقٍ أوروبي دائم وبفاعليةِ حضورٍ متجددة.فيما يخص الجماعات المتطرفة في أفريقيا تظل للأراضي الليبية خصوصيتها المتفردة كحاضنة نموذجية، اذ يكفينا أن نلقيَ نظرة سريعة لما يحدثُ هناك كي نفهم فوراً حجم الشِراك الملتبسة الذي وقعت فيها البلاد بعد إسقاط القذافي..تقاطعاتٌ قبلية صارخة ذات طابع ثأري متخلف وتناحرٌ على تقاسم المدن لا يزالُ على أشدهِ وتشتت في الولاءات فيما يخص التحالفات الحزبية الناشئة من مرحلة ما بعد التغيير.
والغريب في الأمر أنَّ جميعَ أمراءِ الحرب في ليبيا المختلفين في كلِّ شيء متفقون فقط على كلمةٍ واحدة وهي الحرب..لأنهم يراهنون جميعاً على استمرار القتال وديمومتهِ حتى فناء كل الأطراف الأخرى لإدراكهم أنَّ أيَّ نصرٍ لمجموعةٍ قتالية متحاربة لا يضمنُ نسفَ بقية المنافسين لها لن يسمى نصراً ناجزاً أبداً لذا لا يزالُ خيارُ الحرب حتى النهاية هو أقوى من كلِّ خياراتِ السلام والنتيجة تبدو وكأنها محسومة سلفاً بكل الأحوال طالما كانت جميع تلك المجموعات تتبعُ ذاتَ التنظيمات المتشددة.
أما حمى الضغوط الدولية الخارجية فلم تضفْ إلى الوضع الليبي على وجهِ الخصوص إلا مزيداً من الخيوط المتشابكة التي طفحتْ إلى السطح بأبشع تجلياتها مع تصاعد مشاعر اليأس والإحباط الشعبي بشكلٍ متوازٍ مع تصاعد العنف على كامل الأراضي الليبية وكل ذلك سيجعلُ من احتمالِ رسم خارطةِ نفوذٍ جديدة أمراً محتوماً وربما سيفضي الأمرُ أخيراً إلى ثلاثِ دويلاتٍ ضعيفة داخل الدولة الليبية الواحدة..احتمالٌ ربما لا يزالُ الآن بعيداً لكنهُ سيكون الأقرب حظاً لو بقيت ليبيا بؤرة مركزية كبرى لإرهاب «داعش» الأفريقي..ولعلها بالفعل سخرية أقدارٍ مريرة أنَّ ليبيا البلد الذي توحدَ في ظلِّ الاستعمار الإيطالي قبل قرنٍ من الزمان يمكن أن يُقسّمَ اليوم إلى دويلاتٍ في زمنِ الحرية الزائف!.
لا صوت يعلو أبداً على صوتِ الرصاص..وبرغم كل المحاولات المضنية لإخراسها يظلُّ صوتها البشع هو الأعلى دوياً بين الأصوات..ويظلُّ لها أيضاً تلك القدرة المتفردة التي تمكنها أن تلفتَ إليها الانتباه وتفرضَ هيبتها المتجددة بقوةِ الرعب الذي تقذفهُ في القلوب خاصة وهي لا تفتأ تصرخُ بعنفٍ أنَّ للواقع دائماً حضوراً صادماً آخر يقفُ في ضفةٍ مقابلة لكلِّ مَن يحاولُ أن يفسرَ هذا الواقع بقولبةٍ سياسية جاهزة أو يتصدى لتفكيكِ بعض من أسرارهِ متسلحاً بتنظيراتٍ أيديولوجية أو تكهناتٍ عائمة..هذا نزرٌ يسيرٌ مما تسنى للرصاصةِ الأفريقية أن تخبرنا بهِ ..فها هيَ قد رسمتْ لنا صورةً قاتمة وصفتْ بها بعضاً من حقيقةِ ما يحدثُ هناك..
ألم نقلْ منذ البداية أنَّ الرصاصة تقولُ الحقيقة دائماً؟.