عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي
عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي

زعل الملائكة! بقلم: محمد الحداد

المقالات 28 سبتمبر 2015 0 155
زعل الملائكة! بقلم: محمد الحداد
+ = -

 

قبل أيام تابعتُ تقريراً إخبارياً لإحدى الفضائيات الأجنبية أجرتهُ مراسلة بريطانية لحسابِ تلك القناة..كانت هذهِ المراسلة ترافقُ مهاجرين عراقيين وسوريين في رحلتهم عبرَ البحر من تركيا إلى اليونان على مَتن قاربٍ مطاطي كان يصارعُ أمواجاً تهدأ تارةً وتثورُ تارةً أخرى. لم يخل المركب من نساءٍ وصِبيةٍ صغار وفتيةٍ مراهقين وأطفالٍ رُضّع. تفحصتُ وجوهَ جميع هؤلاء المهاجرين واحداً واحداً..كان الخوفُ من المجهول قاسمهم المشترك. سألتُ نفسي إلى أين يرحلُ كلُّ هؤلاء؟ ألا يخافون أن يبتلعهم هذا البحرٍ العميق؟ هل يعلمون أنهم هاربون من موتٍ جماعي في أوطانهم إلى موتٍ محتملٍ آخر يتربصُ بهم وهم يعرضون أنفسهم عليهِ ها هُنا مجاناً؟.
في بداية الرحلة لفتَ انتباهي رجلٌ سوري كبير في السن كانت برفقتهِ زوجتهُ وابنتاه، سألتهُ مراسلة القناة: ألا تخشى الموتَ وأنت تخاطرُ بحياتكَ وحياةِ عائلتك في بحرٍ هائج يمكن أن يبتلعكم في أيةِ لحظة؟ وكيف لرجلٍ في مثلِ سنكَ أن يسلمَ مصيرهُ رهناً لمروجي الأوهام وبائعي الأحلام؟ فأجابها قائلا أنا طبيبٌ جرّاح تركتُ عملي في مشفى داخل سوريا أملاً بقشةِ أملٍ أتعلقُ بها علني أحظى بحياةٍ جديدة..الموتُ واحدٌ هنا أو هناك ..مَن قالَ أننا كنا أحياء؟ في وطننا كنا أمواتاً أيضاً! فجأةً وقبل أن يُكملَ الرجلُ كلامهُ وقفَ أمامهم قاربٌ عسكري كان على متنهِ بضعة رجالٍ من خفر السواحل التركية..اقتربوا منهم ثم طالبوهم بالعودةِ فوراً إلى السواحل التركية ولما رفضَ المهاجرون الامتثال لهم أطلقوا بضعة طلقاتٍ نارية في الهواء لإخافتهم. دبَّ الرعبُ في قلوب الجميع وبدأ بعضُ الركاب بالبكاءِ والعويل لكنَّ قاربهم الصغير لم يتوقف بل كان ربانهُ يبحرُ بهِ ببطء شديد. لم يستسلم الركابُ وظلوا يهتفون بأصواتٍ عالية مطالبين الشرطة بأن يعودوا من حيث أتوا ويفسحوا لهم الطريق لإكمال رحلتهم ثم بدأوا يصرخون بأعلى أصواتهم ألله أكبر. رفع بعض الرجال صغارهم فوق رؤوسهم عالياً ليستجدوا عطف الشرطة وكان من بينهم طفلان أو ثلاثة من الرضع ملفوفين بأقمطتهم البيضاء. أعترفُ أنني هنا لم أتمالك نفسي فبكيت. كان المشهدُ مؤثراً جداً ولا أعرف كيف أعادني هذا المشهد بلحظةٍ واحدةٍ إلى صورة الطفل الغريق إيلان..تذكرتُ صورتهُ وهو مُضطجعٌ على بطنهِ بوداعةٍ على الساحل وذرات بيضاء من رمال البحر تختبئُ بين خصلات شعرهِ المُرتب الجميل.. كأنهُ ملاكٌ نائمٌ فوق الغيم..ما الذي فعلتهُ بنا صورةٌ نصفها تقليديّ مكرر ونصفها الآخر كارثيّ مُرعب؟ طفلٌ جميلٌ نائمٌ بكامل أناقتهِ لوحدهِ على رمالٍ ناعمة من دون جراحٍ أو دماء؟ العادي والمألوف في صورة إيلان هو الذي جعلها غير عادية ولا مألوفة لذا مارستْ علينا صورتهُ دورها الذي لم يكن متوقعاً في تمزيق القلوب. السلامُ الكاذب هو الذي خذلَ إيلان ..ربما لو كانت جثتهُ مشوهة الملامح أو مقطعة الأوصال لما فعلتْ بنا ما فعلت.
كان إيلان ينتظرُ فجراً جديداً على الشاطئ مع أخيهِ ووالديهِ لكنهُ لم يأتِ أبداً..كان نائماً بانتظار شمسٍ أخرى لم تشرق إلا على جثته..هل كان نوماً بهيئةِ موتٍ أو موتاً بهيئةِ نوم؟ لا أدري حقاً لكني رأيتهُ بعينيَّ موتاً يلبسُ ملابسَ أنيقة لا أكثر.. وهؤلاءِ الأطفال والرُضّع الذين يرفعهم آباؤهم فوق الرؤوس أليسَ من المحتملِ جداً أن يكونَ مصيرهم مثله؟ كلُّ يومٍ ستحملُ لنا نشراتُ الأخبارِ صورَ قوارب الموت وهي محملة بضحايا آخرين.. يا لها من مناظر مُرعبة أخشى أن تألفها أعيننا فلا تجود بعدها عليهم بدمعةٍ واحدة.. صورُ أطفالٍ ورضّع يصطحبهم آباؤهم معهم وهم يعرفون أنهم بسكرة موجةٍ غاضبة يمكن ببساطةٍ أن ترسم لهم مصيراً يشبهُ مصير إيلان تماماً فهل ينقصنا ضحايا جُدد؟.
حسناً فعل إيلان النائم حينما أشاحَ بوجههِ عنا ولم يغرزها بأعيننا..هل كنا سنحتملُ المشهدَ لو تركَ عينيهِ تحدقانِ بأعيننا؟ وجههُ المُنكّس خجلاً من عجزنا على انقاذهِ ..وجههُ المُحتجب بين الرمال أرسلَ إلينا جميعاً رسالة «زعل» وغضب واستنكار ويأس وخيبة..نحن أولى بهِ من الخجل..لكن مهلاً هل انتبهتم حقاً إلى غضب إيلان علينا و»زعلهِ» منا؟ ما أجملَ غضب الأطفال وزعلهم حتى وهم أموات.
كل ذلك خطر على بالي بلحظةٍ واحدة حينما رفعَ الرجالُ أطفالهم الرُضّع فوق رؤوسهم. كثيرٌ على قلوبنا هذا المنظر الحزين.
بعد ذلك بدأت الكاميرا تركزُ لقطاتها على فتيةٍ كانوا يبكون بحرارةٍ مُلفتة ويضعونَ أياديهم على وجوههم كأنهم فقدوا أملهم الأخير بعد أن أوشكوا على الوصول..كانوا يندبون حظهم العاثر الذي سيرجعهم الآن إلى نقطة الصفر التركية..فجأةً وبعد دقائق معدودات استدارَ قاربُ خفر السواحل التركية وغادرَ المكان لأنَّ قاربَ المهاجرين كان قد دخلَ للتو الحدود الدولية اليونانية..وعلى الجانب اليوناني انقلبتْ مشاعرُ الجميع من الحزن إلى الفرح وبدؤوا يضحكون ويصفقون حتى أن بعض الشبان قفزوا إلى الماء وأكملوا المسافة المتبقية التي كانت تفصلهم عن الساحل اليوناني سباحةً ..قلتُ يا إلهي ما هذه المهزلة الرخيصة؟ ما هذا الاستهتار الطائش بأرواح الناس؟ الشرطة التركية تدعهم يركبون البحر في وضح النهار ويقامرون بحياتهم ثم يطالبونهم بالعودة حينما يصلون في عَرَضِ البحر وآخر الأمر يتركوهم لحالهم!.
هذهِ الهجرة الجماعية التي ستفرغُ الأوطان من أبنائها ليستْ حَدثاً عابراً أبداً..ليست شأناً داخلياً لدولتين أو ثلاثة ستزول كوارثها بزوالِ المؤثر. حروبنا الرعناء طالتْ كثيراً وستطولُ أكثر وهذهِ الهجراتُ الممنهجة ليست هروباً إلى الأمام أبداً كما يوهمُ الكثيرون أنفسهم بذلك ممن خاضوا غمارها المهلكة أو أولئك الذين سيخوضونها في الغد. هذهِ مؤامرةٌ كونية.. أكذوبة أممية كبرى نحن أبطالها وضحاياها في وقتٍ واحد. صدقوني العالمُ كلهُ يضحكُ منا وعلينا. الجميعُ يحشرنا اليوم في زاويةٍ مهملة تمهيداً لرمينا خارج هذا الكوكب كأنهم يمارسون فينا عملية «فرمتة بشرية» لا غنى عنها لتنظيف «كوكبهم» منا. ستظلُّ تلك الصور القاتمة تتكررُ كلَّ يوم وسنظلُّ ندورُ في دوامتنا المرعبة هذهِ تحت أنظار أكبر مهزلة عالمية أسمها المجتمع الدولي حيث يقف العالم برمتهِ إزاء موتنا متفرجاً ومستمتعاً بما صنعتهُ أياديهم بنا في الخفاء.

 

شاركنا الخبر
احدث الاضافات
آخر الأخبار