عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي
عقيل جمعه عبد الحسين الموسوي

رسائل الأَرْوَاح بقلم: فيصل عبدالحسن

المقالات 21 أغسطس 2015 0 198
رسائل الأَرْوَاح بقلم: فيصل عبدالحسن
+ = -
رسائل الأَرْوَاح

بقلم: فيصل عبدالحسن
 ( 1 )
عند كل مساء مشحون بأزيز أجنحة البعوض، والشعلات المرتعشة لزجاجات الزيت، التي تضيء الصرائف ومداخن “المطال” وأفواه التنانير المشعلة.
تروي الجدات للأحفاد ما صادفه الناس أيام القحط والخير وأيام النكبات وحروب القبائل، التي مرت على القرية وأيام الجراد الذي انتشر في السماء مثل الغيوم المعتمة ليأكل الأخضر واليابس، وترك الناس جياعاً ورفع أغطية النائمين فترك العروس وعريسهــا فرجة للأنظـار.
واجتمع حول الأطفال حديثي الولادة، فأكل أنوفهم، ونقر عيونهم وازدرد أعضاءهم الجنسية، لقد أفنى الذكور وترك الأناث.
ولم ينقذ أهل قرية “المجارية” من شره سوى أحد الأولياء الصالحين عليه السلام، فيغمض عندها الصغار عيونهم مصلين على الرسول وآل بيته.
تكمل الجدة قصتها الليلية، لقد أشهر سيفه بوجه الغيوم السوداء، وأخذت تتساقط موجات الجراد من بين شفرتي السيف المصلت.
وطوال الليل أخذ يحصد فلولها، كان جميع سكان القرية في الصرائف يسمعون صليل سيفه، وسقوط أكداس الجراد.
وفي الصباح وجدوا تلال الجراد تملأ المكان، فراحوا يجمعونها في أكوام كبيرة، ويحرقونها، حتى أن صباح القرية أصبح ليلاً معتماً بفعل تلك الحرائق، والأدخنة العظيمة التي لها رائحة الشواء الحريفة.
( 2 )

في هدأة الليل اندس الرجال قريباً من زوجاتهم، محاذرين أن يوقظوا العائلة التي تنام جميعاً في مكان واحد: الجد والجدة، الأب والأم، الأخ والأخت، ولا يفصل المتزوجين عن باقي أفراد العائلة غير ناموسيات من قماش أبيض خفيف لا تخفي شيئاً مما يحدث بين المتزوجين ليلاً أو تمنع سماع ما يهمسون به!.
وتروي الجدات عن رجال القرية الذين ماتوا ولم يموتوا تماماً، فهم يظهرون في المواسم، والأعياد بأثوابهم البيض ولحاهم الطويلة، ومسابحهم السوداء، وهم يغمزون لنسائهم بعيونهم الكحيلة، ويبتسمون لأحفادهم المحمولين في أراجيحهم الخيطية بين اعمدة الصرائف القصبية، فيبادلهم الأطفال الابتسـام بعيون مغمضــة.
يحملون من الدار الآخرة العطور وأعواد البخور، ورسائل الأرواح، ووصاياهم لأهلهم في قرية المجارية، ولا يستطيع الميت مغادرة الدار الآخرة ــ حسب فهم أهل القرية ــ إلا إذا كان صالحاً ويحبه آل بيت الرسول “ص”.
يجتمع الميتون بعد منتصف الليل عادة عند الصالحين من أهل الـقرية، ليصحبوهم إلى عالـمهم الرحب، تاركيـن الأجساد الضعيفـة، مـمزقة كالأثواب الضيقة المنزوعة، ليدفنها الرجال في الصباح، ويقيمون المعازي على أرواحهم!.
ينام الصغيرعلى رفيف أجنحة البعوض، وحكايات الجدات، وهزات الأرجوحة المعلقة بين السوباط والهطَّار، وعواء كلاب القرية، التي تحرسها بعيون مفتوحة، وهي مستعدة لمطاردة أي ذئب يحاول الاقتراب من بيوت الدجاج، والدواب في الزرائب.
القرية معروفة بكلابها الشرسة، التي تناسلت منذ القدم، لتلد كلاباً هي أقرب في أشكالها للذئاب المتوحشة، المستوفزة دائماً، التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة تتحرك إلا ووثبت باتجاهها، محاولة كشف سترها وتمزيقها بين المخالب والأنياب المدببة.
يصحب نباحها المتقطع في العادة غناء قنبر مجنون القرية، الذي ينام نهاراً في إحدى الزارئب، ويبقى طول الليل مستيقظاً حتى يطرّ الفجر.
هو في العادة يغني أشعاراً لشعراء مجهولين، لا يعرف أحد كيف حفظها، وهو يهيم في دروب القرية، والكلاب تهرُ له وتلعب معه، فهي تعرف أليفها الليلي، الذي يشاركها جولاتها في ظلام الدروب، ومكامن الاختفاء والخطر في ساحات قرية المجارية المكشوفة وسواقيها.

شاركنا الخبر
احدث الاضافات
آخر الأخبار